الأردن بعد الملك حسين:ابعاد الحل الكونفدرالي وآفاق النخبة الجديدة*******يفتح غياب الملك حسين (بالموت) وشقيقه الأمير حسن (بالإقصاء والتهميش) عن المشهد السياسي الاردني، الطريق أمام مشاركة أردنية مرنة في مفاوضات المرحلة النهائية على المسار الفلسطيني المتجهة نحو حل كونفدرالي للقضية الفلسطينية. فالحجم السياسي للملك حسين، ولأنه كان ملكا مطلقا على ضفتي النهر حتى العام 1967، وأملاً بالعودة الى هذا الوضع، ظلا، بالرغم من موافقته الصريحة على الحل الكونفدرالي، يلوّنان هذه الموافقة بألوان الماضي، ويمثلان هاجسا للقيادة الفلسطينية. أما ولي العهد السابق، الأمير حسن، فإلى حجمه السياسي، فقد ظل يتعاطى في العلاقة مع العملية السلمية من موقع الحفاظ على الكيان الاردني.الآن، أصبح وارث العرش الاردني أميرا شابا غير مقيد بممارسات او مواقف سياسية سابقة، وليس له حجم سياسي مسبق. وهو متحرر من الالتزامات نحو البيروقراطية الاردنية، المدنية والعسكرية، بحيث يمكنه »تطهيرها« سياسيا وإعادة تشكيلها بما يلائم الحل الكونفدرالي. وكونه »مجهولا« و»ضعيف الخبرة« هما ميزتان له في وقت يُعاد فيه تركيب النظام السياسي الاردني وتكييفه نحو التوافق مع قياسات »القطعة« الفلسطينية في لوحة »البازل« الاميركية الاسرائيلية للشرق الاوسط الجديد.إذاً، لدينا الآن أمير شاب.. صورته لم تتشكل بعد (وهذا هو المطلوب) سوى ثلاثة ملامح تركز عليها وكالات الأنباء: الاول انه ضابط ناجح ووثيق الصلة بالاجهزة الأمنية والقوات المسلحة، والثاني انه مستعد لاستشارة السياسيين وطلب النصيحة وقبولها، والثالث انه متزوع من فلسطينية. وكذلك هي صورة الكونفدرالية (المتفق على عنوانها من دون تفاصيلها) لم تتشكل بعد، الا انها وثيقة الصلة بالاجهزة الامنية، وتقوم على زواج أردني فلسطيني يتم بالتراضي، وتتحدد شروطه بالمفاوضات.وفي المفاوضات، هناك طرفان: اسرائيل والسلطة الفلسطينية، بينما المشاركة »الاردنية« المطلوبة هي استيعاب النتائج. ويتصور الاسرائيليون، الكونفدرالية إطارا أمنيا سياسيا (بالتتابع) يجمع الأردن (الأرض والمؤسسات) والفلسطينيين (بدون الارض) ويضعهما معاً داخل »الامبراطورية« الاسرائيلية على كل المستويات، بحيث تصبح الكونفدرالية جزءا من منظومة الأمن والسوق الاسرائيليتين، وكذلك الجسر الذي تعبر منه اسرائيل الى الهيمنة على »الشرق الاوسط«. ويستجيب هذا التصور الى الحد الادنى من الطموحات الواقعية الفلسطينية، لا سيما انه »يوحد«، عمليا القسم الرئيس من الشعب الفلسطيني في إطار سياسي واحد (خمسة ملايين من أصل نحو السبعة ملايين فلسطيني) في اتصال مفتوح مع مليون فلسطيني آخرين في اسرائيل، بينما تنفتح امكانية »استعادة« فلسطينيي سوريا ولبنان الى (القسم الاردني) من الكونفدرالية (وهو ما لا يحتاج الى موافقة اسرائيلية). لكن السلطة الفلسطينية بالطبع تطمح الى كونفدرالية تضم الاراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة وإلى »دولة« اي الى سيادة على هذه الأراضي ترفضها اسرائيل (اليسار ضمناً واليمين صراحة) بينما تخطط لضم 60 في المئة على الأقل من الضفة الغربية بما في ذلك مواردها المائية والطبيعية و»توحيد« مناطق السلطة الفلسطينية مع الأردن، بدون »التنازل« عن السيادة عليها. وفي وضع كهذا، ستظل قوات الاحتلال الاسرائيلية جاثمة في قلب »الكونفدرالية«، وتمنع الاتصال بين المناطق الفلسطينية ذاتها، وبينها وبين الأردن، وتضمن الهيمنة، بمعناها العسكري المباشر، على حركة الاتصال الكونفدرالي.التصوران الاسرائيلي والفلسطيني (على الصراع بينهما) لا يلحظان الكيان الأردني ومصالحه ومطالبه، بينما تتولى الولايات المتحدة إعادة صياغته من الداخل للتلاؤم مع نتائج المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية أيا كانت نتائجها. ولا يقتصر الامر، هنا، على التغيير في الأطر القيادية العليا والوسيطة، ولكنه يمتد الى تغيير البنية الاردنية نفسها، باتجاه إلغاء دولة الرعاية الاجتماعية والقطاع العام، وبالتالي تهميش الشرق أردنيين، اقتصاديا وسياسيا، بينما تتم تنمية »ديموقراطية ذات أسنان أمنية« تتكفل »بفلسطنة« الدولة الاردنية عن طريق »الانتخابات الحرة«، حيث يشكل الفلسطينيون نصف سكان الأردن، ولكنهم الأكثر قدرة، اقتصاديا وتنظيميا، بما يسمح للنخبة الفلسطينية بإعادة تشكيل الدولة الاردنية لمصلحتها.للولايات المتحدة، في تغيير البنية الأردنية، مطمح آخر يتعلق باستراتيجيتها نحو عزل العراق. وهذا ما يجعلنا نفهم الدعم الخليجي »الواضح جداً« لولي العهد الاردني الجديد، باعتباره عنواناً للدعم الخليجي اللاحق للبنية الأردنية الجديدة التي يتوقع ان تكون جزءاً من »التحالف الخليجي«.والغائب عن اللوحة السابقة الجاري تركيبها هو احتمال المقاومة الاردنية. ومن حيث المبدأ، نستطيع ان نتصور ان منظمي »اللوحة« يضعون هذا الاحتمال في الخانة الأمنية، ولكنهم يتجاهلونه سياسيا، وربما كانوا على خطأ، فالشعب الاردني الذي يُعد من بين أكثر الشعوب العربية تعلما وتسيّسا وتماسكا في بنيته الوطنية، أظهر، في العقد الاخير، قدرته على تنظيم مقاومة متنامية، سواء في التحركات الجماهيرية الكبيرة في الاعوام 1989، 1990، 1996، 1998 او في نظيم معارضة حثيثة ميدانية ضد السياسات الحكومية او في إنتاج نخبة جديدة اكثر تجذرا، وخصوصاً لجهة الارتباط السياسي بالمصالح الاجتماعية للجماعات المفقَرة في الريف، والمنظمة في أطر عشائرية مسلحة. ونستطيع القول، بالإجمال، ان التسعينيات شهدت ولادة وتنامي وطنية أردنية تزداد تبلورا، بحيث يصعب تجاهلها سياسياً، والتعامل معها بالوسائل الامنية. وإذ تكتسب هذه الوطنية شرعيتها القومية من اتجاهها العروبي (وخصوصا بالعلاقة مع العراق وسوريا) ومن ناقضها الحتمي مع المشروع الإسرائيلي، فإن تعبيرها عن المصالح العيانية للفئات الشعبية، يمنحها مضمونا ديموقراطيا وإمكانات خصبة للمقاومة.