الأردن: أكثر ما يمكن من العرفية في إطار »ديموقراطي«***في عقدي السبعينات والثمانينات، استقر النظام السياسي الاردني بوصفه نظاما شموليا مطلقا. وقد تمكن من تحقيق ذلك، بواسطة مليارات من المساعدات العربية والقروض الاجنبية التي مكنته (1) من توسيع النخبة الحاكمة ومساعدتها في التحول الى كمبرادور، وبالتالي تأمين تلاحمها السياسي (2) ومن إتاحة فرصة استثنائية أمام البورجوازية الفلسطينية، الكبيرة والصغيرة، للتجذر والتوسع، (3) ومن إتاحة فرص التعليم العالي والعمل لمعظم أبناء الريف الاردني.وبذلك حقق النظام السياسي الاردني اجماعا داخليا شبه شامل، ادى الى عزل المعارضة وتهميشها وحصرها في الاوساط الطلابية. فالطلاب، لأنهم خارج الحياة الاقتصادية، لم يجر استيعابهم بالكامل، واما الفئات الاجتماعية الاخرى، فقد عاشت مرحلة انتعاش جعلها تنأى بنفسها عن المعارضة.هذا الاجماع، المستند الى آليات اقتصادية، هو الذي جعل مصادرة الحياة السياسية المدنية ممكنة، وليس قوة او كفاءة الاجهزة الامنية، بل ان قوة وكفاءة هذه الاجهزة نبعت، بالذات، من ذلك الاجماع.وعلى مشارف عقد التسعينات، انفجرت ازمة النظام السياسي الاردني من نقطة قوته/ ضعفه. فقد نضبت المساعدات العربية، ووصلت المديونية الخارجية الخط الاحمر، بل تجاوزته، وصار لا بد من »برنامج تصحيح اقتصادي« هو، كما يفرضه صندوق النقد الدولي، انكماشي بطبيعته، ويقوم على انسحاب الدولة من الاقتصاد، ومن الانفاق الاجتماعي السياسي، ومن »الاستثمار« في اطار برنامج شامل »للخصخصة«.ومعروف ان الحل المقترح، صندوقيا، لأزمة الانظمة الشمولية الغارقة في المديونية والتعثر الاقتصادي، هو »الديمقراطية«، التي تتيح، عبر الآليات الانتخابية والحريات المصاحبة، استيعاب وتنظيم اضطرابات مرحلة الانتقال من مجتمع القطاع العام الى مجتمع القطاع الخاص. وقد أخذ النظام السياسي الاردني بهذا الحل، وكان من محاسن الصدف، بالنسبة له، ان الاوهام البرلمانية كانت مترسخة في عقول الجماهير الاردنية، بسبب النشاط الدعاوي الديمقراطي الدؤوب للقوى السياسية الممنوعة، التي كانت ترنو، في الحقيقة، الى هدف رئيسي هو وقف مطاردتها امنيا، والاعتراف بوجودها، والسماح لها بممارسة سياسية علنية وآمنة. ولعل افضل تغطية ايديولوجية لهذا الهدف هو الدعوة الى الديمقراطية البرلمانية.وكان انهيار الانظمة الشمولية الاشتراكية، و»انتصار« الدعاوى الليبرالية الغربية، اطارا ملائما لقيام اجماع داخلي على »الديمقراطية البرلمانية« التي يحتاج اليها النظام السياسي، وتحتاج اليها المعارضة، »وترغب« فيها الجماهير.وقد تعزز هذا الاجماع الداخلي إبان حرب الخليج الثانية، فقد »اختفت« كل التناقضات فجأة، وسار »الجميع« في مركب واحد هو تأييد بغداد، ولم يعد المرء يستطيع التمييز بين لغة الخطاب الرسمي ولغة الخطاب المعارض. انها، تلك المرحلة المشبعة بالاوهام »القومية« و»الديمقراطية« التي سرعان ما انهارت تحت مطارق الازمة العامة:أولا بدأت عملية أوسلو، وكانت، وقتذاك، تمثل اعترافا بمنظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها شريكا رئيسيا لإسرائيل، لا في اعادة ترتيب الاوضاع في الضفة الغربية وغزة بل على مستوى المنطقة، وكان من عقابيل أوسلو، أردنيا، انفجار ازمة العلاقة الاردنية الفلسطينية في بعدها الاخطر، اي بعدها الداخلي.لقد طرحت أوسلو بقوة، قضية الوجود الفلسطيني في الاردن بوصفها قضية اقتصادية اجتماعية سياسية محلية، نازعة عنها طابعها القومي ومهابتها الوطنية.ثانيا أدت هزيمة العراق الى إضعاف النظام السياسي الاردني والمعارضة الاردنية معا، فقد فقَدَ كلاهما الحليف الأقوى!ثالثا بدأت مفاعيل عملية »التصحيح الاقتصادي« بإيذاء أوساط واسعة من أبناء الريف الاردني، حيث تقلصت فرص التعليم والعمل وانهارت القوة الشرائية لدخول الموظفين الذين، بالاضافة الى تحولهم الى »فقراء« بالتعريف، أصبحوا مهددين بالبطالة، وذلك في أجواء تراجع كل أشكال »الدعم« التي كانت تمكّن الريف الاردني من إعادة انتاج حياته.رابعا توقيع معاهدة وادي عربة، وقد تم تسويق هذه المعاهدة، في البداية، باعتبارها شرا لا بد منه، وان الاردن، على المستوى القطري، كسب »حدودا ثابتة« بالاضافة الى انه استرد حقوقه في الارض والمياه، وبدت معارضة المعاهدة، بالتالي وكأنها معارضة قومية تضع مصالح الامة فوق مصالح الاردن.وقد تبين لاحقا ان المعاهدة لا تخدم مصالح الاردن، وان المفاوض الاردني قد فرّط بحقوق الاردن المائية، وبالسيادة على أراض أردنية »لم تكن محتلة« بالاضافة الى المشاكل الجوهرية الاخرى في المعاهدة، واهمها توطين اللاجئين والنازحين في الاردن توطينا نهائيا، والتنازل عن القدس وعن مجمل »الثوابت« الاردنية.وفيما بعد ظهرت المعاهدة باعتبارها مجرد أساس قانوني لعلاقة اردنية اسرائيلية حميمة على كل صعيد، وللتعاون الثنائي، والمشاريع الثنائية، والتنسيق الثنائي، بحيث أصبحت »اسرائيل« الشريك الاول للاردن، والدولة الاولى بالرعاية من قبل الحكومات الاردنية في حين تم تدمير العلاقات الاردنية العراقية، وإقفال ملف العلاقات العربية، وتحولت العلاقات الاردنية السورية الى ما يشبه علاقات الحرب الباردة.وقد أسهمت هذه التطورات في شق النخبة الحاكمة التي انتقلت اوساط واسعة منها الى المعارضة، كما ادت الى تعميق التناقض الاردني الفلسطيني حول مسألة التوطين. والى تعميق التناقضات الطبقية التي تتخذ شتى الاشكال والى إطلاق كل أشكال التفتيت الداخلي من عقالها، في حين فقد النظام السياسي قواعده الداخلية، اجتماعيا واقتصاديا. وهو يحاول، بدون جدوى، بلورة قواعد جديدة.لم يعد هناك اجماع.. فلم تعد هناك امكانية »للديمقراطية«!وهكذا كانت المعالجة الامنية للاحداث منذ آب 1996، والقوانين الاستثنائية، والعودة الى الاعتقالات والاجراءات الامنية، والتعديلات على قانون المطبوعات، والهجمة على المعارضة. ولكن، في إطار »ديمقراطي« و»قانوني«، فالنظام السياسي الاردني لا يستطيع، حقا، العودة الكاملة الى الحكم الشمولي العرفي، وهو يحتاج، حقا، لأسباب داخلية وخارجية، الى شرعية انتخابية، والى استمرار آليات »ديمقراطية« مع رغبته في جعلها اكثر ضيقا وانضباطا! وهو يعمل على أساس اكثر ما يمكن من العرفية في إطار »ديمقراطي« بعدا كان يعمل منذ 1989 على اكثر ما يمكن من »ديمقراطية« في إطار الضوابط العرفية.لا يستطيع النظام السياسي ان يكون ديكتاتوريا ولا ديمقراطيا! الا بالاجماع الداخلي.والاجماع لم يعد قائما! والبديل هو الازمة السياسية العامة المتجددة التي لا نعرف، بالضبط، عقابيلها.