منذ العام 2011 وحتى الآن، تابعتُ، بلا كلل، مساعي ترطيب العلاقات الثنائية بين الأردن وسوريا؛ ولا أبالغ إذا قلتُ أنني لعبتُ دورا في صياغة مقاربة غير عدائية لدى المسؤولين السوريين، الذين احتفظ معهم بعلاقات صداقة وثقة واحترام متبادل. والسوريون أهل وفاء وتقدير عميق لمن يقف معهم في الشدائد.
ومن المعروف أنني تبنّيت القضية السورية منذ اليوم الأول للحرب التي شنتها القوى الامبريالية والرجعية والعثمانية ضد سوريا العروبة، تحت شعار ‘ الثورة’ التي لا تعدو كونها تمردا طائفيا فوضويا مدعوما من جهات يكمن مشروعها في تدمير الدولة السورية، وليس ‘ اصلاحها’!
حين أتفحص العلاقات الأردنية السورية، أجد ، لأسفي، أن الكفة الايجابية تميل لصالح دمشق، أقله منذ تولى الزعيم الراحل، حافظ الأسد، الرئاسة، العام 1971. يخصص الدكتور حنا بطاطو في كتابه المهم حول سوريا، صفحات تتعلق بموقف الأسد الكبير من أحداث أيلول 1970، كان الأسد، وقتها، وزيرا للدفاع وقائدا لسلاح الجو، وكان الصراع محتدما بينه وبين صلاح جديد، اليساري الطفولي حليف فتح. يؤكد بطاطو، بالتوثيق العلمي، نشوء صلات تنسيق بين حافظ الأسد والشهيد وصفي التل؛ الأخير أبلغ الملك الراحل الحسين، بأن الأسد سوف يمنع الطيران السوري من المشاركة في القتال ضد القوات الأردنية. وهو ما كان، ومكّن اللواء المدرع 40 من صد قوات صلاح جديد.
غضب الأسد، حسب بطاطو، غضبا شديدا من قيام فتح بالمشاركة في عملية اغتيال صديقه وحليفه وصفي التل؛ فاستدعى قادة فتح ، وأبلغهم الآتي: أي مساس بالملك حسين، سأعتبره عملا معاديا للدولة السورية، مهددا إياهم بالتصفية، إذا قاموا بعمل عدائي نحو المملكة.
كان الأسد ، بصفته استراتيجيا كبيرا، مدركا أن انفراط المملكة سوف يؤدي إلى قيام الدولة البديلة، وتصفية القضية الفلسطينية. وهو، رحمه الله، لم يكن يكنّ أي نوع من الثقة بالقيادات الفلسطينية، أو بمشروعها السياسي ، أو ارتباطاتها.
الأسد هو الذي بادر، لاحقا، إلى تطوير العلاقات مع الأردن؛ كان معجبا بأداء القوات المسلحة الأردنية في حرب تشرين في الجولان، ومن ثم قام بزيارة تاريخية إلى عمان، واستقبله الحسين أجمل استقبال، واصفا إياه، حينها، بالفارس العربي الذي تقوم سياسته على نبذ ‘ الافراط والتفريط’ معا. وربما كان هذا الوصف يلخص استراتيجية الاسد القائمة على الواقعية السياسية والتمسك بالثوابت في آن واحد.
تطورت العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين ، حتى بتنا نعبر نقطة حدود واحدة، وبالهوية، على طرفي الحدود، وحتى وحدنا المناهج الخ وكانت تلك أياما ذهبية، خصوصا وأن دمشق وعمان، توافقتا على التدخل السوري في لبنان لمنع تفكيك الدولة ووقف الحرب وحماية المسيحيين من الإبادة والتهجير الخ ولعل مَن يراجع الأرشيف، سيجد أن العلاقة بين الأسد والحسين، تحولت الى علاقة صداقة شخصية، ومَن كان في جيلي ، سوف يذكر أن الاسد وقف الى جانب الحسين في استقبال العزاء بالراحلة الملكة علياء.
في مطلع الثمانين، نحن بدأنا بتخريب العلاقات، من خلال السماح بتدريب عناصر الإخوان المسلمين في الأردن، وتسليحهم، وارسالهم إلى سوريا؛ مما استدعى ردودا أمنية سورية؛ لكن الملك حسين عاد واستدرك الأمر، فأعلن في العام 1985 أن ادعاءات دمشق فيما يتصل بتدريب وتجهيز الاخوان المسلمين صحيحة، وبجرأة، قدم، على شاشة التلفزيون الأردني، اعتذارا لسوريا وقائدها وعادت العلاقات، اثر ذلك، إلى وضع ايجابي، تخللته مصاعب وخلافات، خصوصا لدى التوقيع على معاهدة وادي عربة مع إسرائيل.
في عهد الرئيس بشار الأسد، أي منذ العام 2000، زالت كل العقبات في العلاقات الثنائية، وتحولت إلى علاقات جيرة ودية اعتيادية؛ عزّزتها العلاقة الشخصية والعائلية، بين القائدين الشابين اللذين ورثا الحكم في عمان ودمشق. وحتى التصعيد الاقليمي المرتبط بمقتل رفيق الحريري وحرب 2006 بين حزب الله ـ مدعوما من دمشق ـ والعدو الإسرائيلي، أمكن استيعابه على الجبهة الاردنية ـ السورية.
عشية ما سمي الربيع العربي ـ ذلك الربيع الأسود ـ لم تكن هناك أي شائبة تشوب علاقات الدولتين، ولم يصدر عن السوريين أي موقف تدخلي في الشأن الأردني، في حين سمحنا لأنفسنا بالتدخل السياسي واطلاق تصريحات والانضمام إلى ‘جبهة أصدقاء سوريا’ الامبريالية الرجعية التي هدفت إلى اسقاط النظام السوري بالقوة.
لم يصدر عن السوريين أي رد فعل سلبي؛ بالعكس، من الممكن مراجعة التصريحات الرسمية السورية التي كانت تشير إلى أن أقل الجبهات إيذاء لسوريا هي الجبهة الأردنية، وتجد لعمان العذر بالضغوط الدولية والاقليمية، وبالضغوط الداخلية الاخوانية والسلفية.
اتبعت عمان، طيلة الوقت، سياسة ضربة على الحافر وضربة على المسمار، بحيث توازن بين الضغوط المتعارضة. وللأسف، لم يصدر عن الحكومة الأردنية، بيان واحد يدين الأعمال الإرهابية للقاعدة والنصرة وداعش وجيش الاسلام حتى حين كانت تلك الاعمال تتوجه الى مواطنين مسالمين، وتهدف الى اجتثاث طوائف بأكملها، كما حدث في العدوان الآثم على بلدة معلولا؛ بينما لم تتوانى الخارجية السورية عن اصدار بيان تعزية للحكومة والشعب الاردني باستشهاد الطيار معاذ الكساسبة، تضمن الدعوة إلى التنسيق في مواجهة الارهاب.
لسوء الحظ أن الاستجابة لهذا البيان الأخوي، تمثل في دعم عملية ‘كسر المخالب’ ضد الجيش السوري في جنوبي سوريا.
كان التدخل الأردني المتمثل في تدريب وتسليح وتعزيز عناصر ومليشيات سورية ‘ معتدلة’، يتم وفق المقاربة التالية: لقد انسحب الجيش السوري من المناطق الحدودية مع الأردن، ولا نريد التورّط بإرسال قوات أردنية، وهكذا، فإن البديل الذي يحمي اقتراب الارهابيين من حدودنا، يتطلب تسليح قوى عشائرية ومعتدلة تكون حاجزا عن النصرة وسواها من الجماعات الإرهابية.
مقاربة تدخلية؛ تصوروا لو أنها معاكسة ، ماذا سيكون عليه موقفنا عندها، ولكن السوريين وافقوا، ضمنا، على هذه المداخلة، ولم يتخذوا منها موقفا؛ فمتى بدأوا بالرد الإعلامي؟
ـ عندما سقطت تلك المقاربة، سياسيا وميدانيا؛ فالقوى المسماة ‘ معتدلة’ في جنوب سوريا، حظيت بدعم لخطتها المسماة ‘ كسر المخالب’ الموجهة ضد الجيش السوري، وليس لحماية الحدود الأردنية؛
ـ فإذا كانت مشكلة الأردن هي تأمين حدوده لغياب الجيش السوري، فإن هذا الجيش يعود الآن إلى مواقعه على الحدود السورية ـ الأردنية، مما يفرض، لدى سلامة النوايا، حفز المنظمات الموالية لعمّان على تسهيل مهمة عودة الجيش السوري، والتنسيق العسكري والامني معه، لضمان أمن الحدود، واعادة الأمن والسيولة الطبيعية لطريق درعا دمشق.
وكان السوريون، قبيل هجوم ‘المعارضة المعتدلة’ بالتنسيق مع النصرة وداعميها الاسرائيليين، يأملون بأن القرار الأردني سيسارع إلى دعم خطوة الجيش العربي السوري بالعودة الى الحدود، وتأمينها بالتنسيق الثنائي. ما حدث هو العكس؛ ما أدى إلى غضب السوريين الذين أملوا أن تكون حادثة استشهاد الكساسبة، لحظة مؤاتية لتوحيد الجهود الثنائية ضد الإرهاب.
سوريا سوف تحسم المعارك السياسية والعسكرية؛ والأمل بإسقاط النظام السوري، غدا من الأوهام لا من السياسة؛ ونهجنا السابق والحالي نحو سوريا، كبدنا وسيكبدنا خسائر استراتيجية:
أولا، قرار استدراج اللاجئين السوريين بالإغراء والترتيبات، حمّلنا اليوم مشكلة ديموغرافية سياسية اجتماعية كبرى، لا نعرف كيف سنواجهها لاحقا؛ فأغلب هؤلاء لن يعودوا إلى ديارهم، إما لأن هجرتهم بالأساس اقتصادية، أو لانهم مكونون من عائلات مقاتلين وارهابيين،
ثانيا، في فترة استجلاب اللاجئين، تسرّب حوالي 53 ألف فلسطيني ـ سوري مما يزيد خلخلة النسيج الديموغرافي في الاردن،
وكنت حملت مبادرة من دمشق بموافقة الرئيس الأسد على التنسيق بين وزارتي الداخلية في البلدين، لحل مشكلة اللاجئين، واتخاذ الترتيبات لإعادة من ليست لديهم ملفات أمنية إلى مراكز الإيواء داخل سوريا. ولم أحصل على رد من عمان.
ثالثا، إن المقاتلين الموصوفين بالاعتدال الذين تم تدريبهم او تسليحهم أردنيا، يتحول معظمهم في سوريا إلى الولاء للمنظمات الإرهابية.
رابعا، إن سيطرة القوات المسلحة السورية على كامل محافظات جنوب سوريا هي قاب قوسين أو أدنى، ولن يكون للمقاتلين ‘المعتدلين’ والاهابيين معا، من منفذ للهرب سوى إلى الأردن؛ مما يتطلب التنسيق الفوري مع الجيش السوري.
خامسا، تورطت جبهة النصرة بعلاقات وثيقة مع اسرائيل التي أرادت انشاء حزام أمني جرى ضربه مؤخرا؛ وينبغي للأردن، انسجاما مع موقفه ضد الاحتلال ومع موقفه ضد الارهاب، اتخاذ ما يلزم ، سياسيا وميدانيا، لإفشال الخطة الاسرائيلية.
مغامرة سوريا انتهت! هذه هي الحقيقة الاستراتيجية التي ينبغي أن تُبنى عليها السياسة الاردنية نحو سوريا، بلا ابطاء.