إثر قرار القمة العربية في العام 1974، القاضي بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، بدأت تتكون عناصر حل ـ كان هناك اعتقاد بأنه ممكن ـ وجرى حوله سجال سياسي داخل الأوساط الفلسطينية، استمر حتى العام 1982، حين تمكن العدوان الإسرائيلي على لبنان من إخراج قوى (م. ت.ف) من هذا البلد، بحيث أصبحت القدرة على الاشتباك المسلح مع إسرائيل، حتى من الناحية النظرية، غير قائمة، مع انغلاق كافة الحدود المجاورة لفلسطين.ومذ ذاك، تعززت التصورات الفلسطينية حول سيناريو الدولة في حدود الـ67 في سياق حل تفاوضي. وكانت الانتفاضة الشعبية للعام 1987 ـ 1988، حاسمة في اعتماد هذا السيناريو؛ عندها أصدرت المملكة الأردنية الهاشمية، قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية، وأعلن المجلس الوطني الفلسطيني، استقلال الدولة الفلسطينية في حدود الـ67.مذ ذاك، أصبح الإجماع الفلسطيني جاهزا للإقدام على هذا الحل الذي جرى ربطه، نظريا، بحق العودة؛ غير أنه كانت هنالك عقبتان، عربية وإسرائيلية؛ تم تجاوز الأولى بالعدوان الأميركي والحصار الدولي على العراق، كما تم تجاوز الثاني من خلال ضغوط أميركية وتنازلات فلسطينية في مفاوضات سرية، انتهت بالاعتراف المتبادل، واتفاقيات أوسلو 1993، والتي كان الرئيس الراحل حافظ الأسد، بعيد النظر حين وصفها بأن كل بند فيها يحتاج إلى اتفاقية خاصة به لتفسيره، وقوة دولية لتنفيذه.لا حاجة للقول إن سيناريو الدولة الفلسطينية في حدود الـ67، لم يفشل فقط وإنما تردى إلى سيناريو واقعي مثلت فيه السلطة الفلسطينية، دور قوة أمن محلي تابعة للاحتلال الذي واصل الاستيطان واقتطاع الأراضي وبناء الجدران والطرق الالتفافية التي حولت التجمعات السكانية في الضفة إلى أرخبيل متقطع الأوصال من الكانتونات المحلية، بينما جرى فرض نظام بوليسي على أهالي الضفة، معزز بتحويل القوة العاملة الرئيسية منهم إلى موظفين أو مهجرين طوعيا. وفي قطاع غزة، انتهى الاتقلاب الحمساوي إلى إمارة طالبانية وسجن كبير للغزيين ومنصة صغيرة في لعبة الصراعات الإقليمية.المسؤول الأول عن هذا الوضع هو، بطبيعة الحال، الاحتلال الإسرائيلي. وهذا معروف منذ البداية، لكن أداء النخب الفلسطينية، حتى في إطار سيناريو أوسلو، كان كارثيا؛ فبالإضافة إلى الفساد الواسع الانتشار وانعدام الكفاءة الإدارية وتجذّر المنطق الفصائلي ضد منطق الدولة، أصبحت ‘السلطة’ أسيرة الإعالة الخارجية، وخصوصا الأوروبية؛ وتم احلال جمعيات التمويل الأجنبي محل الخلايا النضالية؛ فعجزت النخب الفلسطينية المسيطرة حتى عن تحقيق المشروع الاستسلامي في إقامة كيان تحت الاحتلال.وكما كان جوهر كفاح ( م.ت.ف) يكمن في استخلاص الضفة الغربية من السيادة الأردنية، شنت حماس سلسلة من العمليات المؤثرة في التسعينيات، بهدف التخريب السياسي على المشروع الفتحاوي، وانتهت ، أخيرا، إلى تأسيس إمارتها في غزة المنصلة. وكان هذا المشروع، كما بدا لقيادة حماس، مفتوح الأفق على مصر الإخوانية، ومعزز بالدعم التركي والقطري، ثم سقط المشروع إقليميا ودوليا، ولم يعد هناك من فرصة أمام حماس ـ غزة سوى التفاهم مع إسرائيل. الخلاصة:أولا، منذ أوسلو 1993 تدهور ميزان القوى لصالح الإسرائيليين في فلسطين إلى حد لم يعد واقعيا معه تحقيق مطلب حدود ال67،ثانيا، في ظل السلطة الفلسطينية، جرى تجريف شامل للإمكانات الكفاحية في الضفة الغربية، كما أن تورّط حماس في الصراعات الإقليمية، وضعها، موضوعيا، خارج التأثير المقاوم،ثالثا، وقد تمكن المحتلون الإسرائيليون، من دون اعتراض فلسطيني أو عربي جدي، من تضخيم المساحات الاستيطانية في الضفة الغربية، وتمزيقها بالجدار الاستيطاني والطرق الالتفافية، ما أفقدها وحدتها الجغرافية، بينما فقدت الدولة الفلسطينية العتيدة، وحدتها السياسية بانفصال غزة القابعة في ظروف حصار صارم وفي ظل دكتاتورية طالبانية. وتدفع الأوضاع المتردية في الضفة وغزة، المزيد من الفلسطينيين إلى البحث عن الهجرة أو القبول بأي حل. الحلول البديلة:أولا، سيناريو الدولة الفلسطينية في غزة ـ سيناء كل المساعي لإعادة وصل غزة بالضفة، باءت بفشل حتمي؛ فغزة خرجت، في الواقع، من المعادلة الفلسطينية، وتحولت، موضوعيا، إلى كيان مستقل محكوم بتقاطعات إقليمية كبرى، تتجاوز القضية الفلسطينية، إلى كونها منصة تركية ـ قطرية، وجزءا من مشروع غاز ليس ممكنا من دون تفاهمات جوهرية مع إسرائيل. الحكومة الحمساوية وإسرائيل تتقاطعان مع الحليفين نفسيهما في أنقرة والدوحة، لكنهما تختلفان في الموقف من مصر السيسي. وهذه العقدة هي التي تشكل موضع التفاوض الفعلي بين الأطراف.في عهد مصر الإخوانية، تم البحث عن توسيع غزة في سيناء. واتضح، لاحقا، أن المشروع لا يرتبط حصرا بالإخوان المسلمين، وإنما برؤية ‘واقعية’ مركبة من الآتي:أولا، الانفصال الجغرافي ولاحقا السياسي والاجتماعي والثقافي بين غزة والضفة،ثانيا، الكثافة السكانية الهائلة في قطاع غزة، التي سبق لها وأن انفجرت في أزمة اقتحام عشرات الآلاف من الغزيين للحدود مع سيناء في العام 2010،ثالثا، الارتباط الحاصل بين غزة الخاضعة لحكم إخواني والمكتظة بالعناصر السلفية الجهادية وبين أمن سيناء، وتاليا مصر، مما يجعل من المستحيل القبول المصري بعدم احتواء القطاع واخضاعه لسيطرة القاهرة؛ بالمقابل، هناك سيكون على مصر تقديم أراض للقطاع لاستيعاب الكثافة السكانية؛رابعا، تمويل العملية ككل سوف تتحمّله قطر التي لها مصلحة أساسية في أن تستثمر في غاز الساحل الغزي، والأهم أن تكون شريكا في مشروع الغاز الدولي شرقي المتوسط.على هذه الخلفيات يتضح بعد رئيسي للصراع التركي ـ المصري، بوصفه صراعا حول غزة؛ مصر ترى في القطاع جزءا من أمنها القومي، وتركيا أردوغان ترى في القطاع إحدى منصات نفوذها الإقليمي.وتسعى المملكة العربية السعودية إلى تجسير الفجوة بين الطرفين، إلا أن خيارها الأخير، لأسباب عديدة، يظل مصريا؛ فمصر تفتح أمام الرياض امكانية ترابط الكتلة السنية الكبرى من الخليج إلى وادي النيل إلى المغرب العربي. وهذا هو معنى مشروع جسر الملك سلمان.تراجع الدور التركي ـ الممكن في المدى المنظور ـ وإعادة اخضاع حماس للمخابرات المصرية، سيقودان إلى خيار غزة / الدولة. ثانيا، سيناريو الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من مناطق سكانية في الضفة الغربية نموذج الانسحاب الإسرائيلي من طرف واحد من قطاع غزة، أوضح للإسرائيليين، أن ترك مناطق الكثافة السكانية لـ’مصيرها’ هو أفضل الخيارات السياسية أمام تل أبيب. تخلصت تل أبيب من عبء غزة، وتحولت غزة من شأن إسرائيلي إلى شأن فلسطيني ـ فلسطيني ومصري وإقليمي. وهذا هو أفضل ما حققته إسرائيل؛ أما المخاطر الأمنية القادمة من القطاع، فيمكن معالجتها بالعدوان المكلف للغزيين، والذي يتيح لإسرائيل استعراض عضلاتها العسكرية في اعتراض المسارات الإقليمية أو تأمين حضورها الإقليمي.يمكن تطبيق نموذج شبيه في الضفة الغربية: تقرر إسرائيل من طرف واحد ما هي الأراضي التي ستتخلى عنها من الضفة الغربية، وتحصّن أمنها، وتتلافى الضغوط، وتُلقي بالعبء السكاني على الأردن، وسيكون على الأردنيين والفلسطينيين، عندها، تدبّر الصيغة السياسية في ما بينهما.أفضل ما في هذا السيناريو بالنسبة لإسرائيل هو امكانية اشتعال الحرب الأهلية بين الأطراف الفلسطينية، مما سيؤدي إلى هجرة واسعة النطاق، لن تكون إسرائيل، عندها، مسؤولة عنها سياسيا أو أخلاقيا. ثالثا، سيناريو تعديل المبادرة العربية تواجه المملكة العربية السعودية، عدة ضغوط غير مسبوقة، هي:أولا، تنامي حالة الصراع مع إيران، بل وتحوُّل هذا الصراع إلى القضية المركزية لدى السعودية،ثانيا، تراجع التحالف الأميركي السعودي إلى مستوى بات يهدد أمن السعودية ومصالحها. وتشهد الولايات المتحدة نمو تيارات معادية للسعودية لم يعد ممكنا لأي إدارة أميركية أن تتجاهلها. لقد كان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أثناء لقائه مع قادة مجلس التعاون الخليجي واضحا حيال العديد من المطالب الجوهرية المطروحة على الخليجيين. وهي، كلها، لا تنسجم مع السياسات السعودية، حيال إيران وسوريا والعراق واليمن، كما إزاء سيطرة الخطاب الديني المتشدد؛ (…). وإذا كان أوباما سوف يستخدم، مثلا، حق الفيتو ضد التشريع الخاص بالسماح لمتضرري هجمات نيويورك 2001 بمقاضاة السعودية، فسيبقى مضمون هذا التشريع سيفا مسلطا على السعودية، يمكن تحريكه في أي وقت.ثانيا، التراجع الحاد في الموارد النفطية، واحتدام التنافس في السوق بالنظر إلى نجاح شركات الصخر الزيتي في الولايات المتحدة وعودة صادرات النفط الإيراني، وضعا القيادة السعودية أمام حقيقة صعوبة استمرار دولة الرعاية الشاملة القائمة حتى الآن.وتجاوزت الرياض المخاطر السياسية الداخلية الممكن توقعها جراء التراجع عن سياسات الرعاية الاجتماعية، نحو تبني رؤية نيوليبرالية تحت عنوان : ‘ رؤية 2030’. صحيح أن البرامج النيوليبرالية أثبتت فشلها الذريع كأسلوب تنموي في كل أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، كما يظهر من مفاجأة المرشح بيرني ستاندرز وولادة تيار اشتراكي ديموقراطي أميركي كبير، إلا أن السعودية لم تجد مناصا من تبني مشروع نيوليبرالي، بالرغم من مخاطره.ضمن هذه الأطر السالف ذكرها، لم يعد بإمكان القيادة السعودية أن تتجاهل امكانية الإفادة من قوة إسرائيل في مواجهة إيران، ابتداء من السعي إلى تحقيق برنامجها السياسي في سوريا.لكن العقبة التي تحول دون هذا التحالف تكمن في القضية الفلسطينية التي أصبح حلها لازما لتكوين التحالف الشرق أوسطي ضد إيران و ‘ الهلال الشيعي’.من الملاحظ أن الرياض بدأت بالفعل خطوات من الحوار مع الجانب الإسرائيلي، كما أن قرارها باسترداد جزيرتي صنافر وتيران، وضعها في سياق معادلة السلام المصري ـ الإسرائيلي؛ ولكن الخطوة الأجرأ الآن إنما تكمن في تكليف مصر التفاوض مع إسرائيل على أساس تعديل مبادرة السلام العربية. وهي في الأصل سعودية.المبادرة ـ قبل التعديل ـ كانت تشترط انسحابا إسرائيليا من أراضي ال67 والدولة الفلسطينية وحل مسألة اللاجئين ( حق العودة) بمقابل سلام شامل مع الدول العربية والإسلامية. الآن، المطلوب تخفيض هذه الشروط في ما يتصل بالجولان وبحق العودة. تعتبر إسرائيل أن القضية الفلسطينية لم تعد سوى شأن إسرائيلي داخلي؛ فهي، بعدما تخلصت من غزة، تواجه النقاش حول ‘سكان الضفة الغربية’ بين اتجاهين، يميني يرى أن استمرار الاحتلال ونهجه الاستيطاني والعنفي سوف يؤدي، في النهاية، إلى التخلّص من القسم الأساسي من ‘ السكان’. وتجد هذه النظرة في واقع هجرة أكثر من مليون فلسطيني طوعا من الضفة الغربية منذ العام 1988، ما يبرر موقفها، في حين يرى الاتجاه ‘ اليساري’ أن المشكلة السكانية في الضفة سوف تتفاقم وترتد على إسرائيل التي ستجد نفسها، في وقت ما، مضطرة لتحويل رعايا الاحتلال إلى مواطنين إسرائيليين.التفاهم الإسرائيلي ـ الإسرائيلي الممكن، مقابل إغراءات التحالف مع الخليج وتجديد السلام مع مصر والأردن، يتمحور حول كيفية حل مشكلة السكان في الضفة الغربية. وأفضل حل ممكن ، بالنسبة للإسرائيليين، هو إلقاء هذا العبء على الأردن، في الصيغة التي يتوافق عليها الفسطينيون والأردنيون. رابعا، الكونفدرالية الأردنية ـ الفلسطينيةعلى رغم أن السياسة الأردنية المعلنة طالما أكدت على رفض الكونفدرالية إلا مع دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة في حدود ال67؛ فإن الباب بقي مواربا؛أولا، منذ العام 1988 وحتى الآن، ورغم المطالبات الشعبية الملحة، جرى، دائما، رفض دسترة قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية. ما يزال هذا القرارسياسيا، وما تزال الضفة الغربية، دستوريا، جزءا من المملكة، وسكانها، بموجب القانون، ما زالوا أردنيين.ثانيا، إن سيل الهجرة الطوعية من الضفة الغربية باتجاه الأردن، والإقامة الدائمة والتجنيس، لم ينقطع يوما منذ عام فك الارتباط وحتى تاريخه،ثالثا، إن إقرار قانونيّ اللامركزية والانتخابات في المحافظات، يؤسس، قانونيا، لصيغة فدرالية داخل الأردن أو كونفدرالية مع سكان الضفة الغربية. في الواقع، لا تتحمّس عمان لصيغة الكونفدرالية، ليس فقط بالنظر إلى أعبائها السياسية والأمنية، والصدام مع القوى الفلسطينية والأردنية المعترضة، وإنما لأنها، بالأساس، تهدد صيغة التوافق الأردني الداخلي. خامسا، الفدرالية الأردنية الفلسطينية داخل الأردن هذا السيناريو هو المفضل لدى القيادة الأردنية؛أولا، لأنه يضمن الولاء السياسي والانضباط الأمني للأردنيين؛ (بينما سيغيّر الخيار الكونفدرالي، مضمون البنية السياسية الأردنية، جذريا، بالنظر إلى اقتصار المشاركة السياسية في الشق الأردني من الكونفدرالية على الأردنيين الأصليين، ما يزيل المخاوف التي تعرقل المطالب الديموقراطية، ويطرح القضية الاجتماعية، ويُضعف الحضور السياسي للبرجوازية لحساب المحافظات)؛ثانيا، لأنه يضمن تأطير أربعة ملايين ونصف المليون فلسطيني في الأردن، سياسيا وأمنيا، ويلزّهم إلى دعم النظام السياسي مقابل تأمين وضع المواطنة، وزيادة مكتسباتها؛ (في حين أن الكونفدرالية سوف تحوِّلهم إلى طرف موضوعي في الدولة الثنائية، وتخرجهم من عباءة النظام السياسي الأردني)؛ثالثا، لأنه يضمن الإبقاء على صيغة ‘ الحَكَم’ بين كتلتين؛ (في حين أن الكونفدرالية تسمح بتنظيم العلاقة بين الكتلتين بشروط جديدة للعبة السياسية، تنهي ضرورة الصيغة السياسية الحالية.) غير أن عمّان ليست اللاعب الوحيد في القرار؛ فالمطلوب الآن، إقليميا ودوليا، التوصل إلى حل ‘واقعي’ لمشكلة الكيانية السياسية الفلسطينية. وهو حل غير ممكن، إسرائيليا وخليجيا، من دون الكونفدرالية التي تسمح بقيام وترسيخ الكيانية الفلسطينية من دون دولة ومن دون حدود ال67. الحقيقة، دائما، صادمة؛ ولكن لا مناص من وضعها على الطاولة:لم تعد مشكلة القسم الرئيسي من الفلسطينيين، موضوعيا، مشكلة أرض، بل مشكلة كيانية سياسية مستقرة تعكس حجم الحضور الفلسطيني في شبكة الرأسمالية العربية والدولية، بما فيها البرجوازية الصغيرة وأصحاب المهن؛ إن المكتسبات التي حققها قسم رئيسي من الفلسطينيين في الثروة والتجارة والأعمال والمهن الخ لم ينعكس، حتى الآن، في مكتسبات سياسية على أرض فلسطين، بالنظر إلى ما يلي:أولا، ضراوة العدو الإسرائيلي وتمتعه بالحماية الدولية،ثانيا، الصراعات العربية ـ العربية التي وصلت إلى حد الحرب الأهلية المديدة؛ثالثا، فشل النخب السياسية الفلسطينية بالانتقال من منطق الفصائل إلى منطق الدولة؛رابعا، سقوط السياق العربي والدولي للمشروع الفتحاوي، تلاه سقوط ذلك السياق الخاص بالمشروع الحمساوي الإخواني؛خامسا، انحراف المزيد من الأجيال الجديدة الفلسطينية عن محور النضال الوطني إلى محورين؛ نيوليبرالي وسلفي تكفيري منغمس في الصراعات الطائفية والإقليمية. تحاول عمّان تقديم حل ‘دينامي’ لمشكلة الكيانية السياسية الفلسطينية من خلال الشراكة داخل المملكة، وتوفير إطار سياسي مستقر للبرجوازية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة والمهنيين والمبادرين الاقتصاديين الفلسطينيين؛ وذلك من خلال رفع نسب التمثيل الفلسطيني في الهيئات الدستورية والحكومية، وتمكين الدينامية الفلسطينية من التعبير عن نفسها في سياق أردني.الخطوات السياسية في هذا السياق أصبحت معروفة (في قانوني الانتخابات واللامركزية والتعديلات الدستورية التي تؤمن احتكار الأمن وفتح الباب أمام تداول السلطة بين الفئات البرجوازية في حكومات نيابية؛) إلا أن الخطوات الاقتصادية هي الأهم؛ فبسرعة غير محسوبة، وبدعم إقليمي، تجري العودة الآن إلى تمكين التيار النيوليبرالي من الهيمنة على القرار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في البلاد. كان هذا الخيار (النيوليبرالي) قد فشل في طبعته الأولى في أواسط العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، فشل بصورة مريعة، سياسيا واقتصاديا وكلّف خزينة الدولة مليارات الهدر والفساد والمديونية. ومع ذلك، وبرغم الكلفة السياسية المتوقعة، تتم العودة إلى الخيار النيوليبرالي، مجددا، في مسعى لتأسيس مركز للبورجوازية الفلسطينية ـ الخليجية، تذكّر بمركز البورجوازبة السنية ـ الخليجية في تجربة الحريري اللبنانية؛ لن تكون هناك مساعدات ‘برّانية’ للخزينة الأردنية، وإنما ‘ استثمارات’ بالشراكة، لها دور أساسي في تركيز الكيانية الفلسطينية بلا أرض. أما على مستوى توفير الوظائف وزيادة الانتاجية وتحسين مداخيل الخزينة، فالنتيجة واضحة منذ الآن، قياسا للتجربة السابقة؛ فـ’ الاستثمارات،’ في النهاية، بالغة الشراسة وواقعية بصورة صلبة. وهي ستعمل، كالعادة، في مشاريع تتضمن تنازلات وتسهيلات ترهق الدولة والخزينة والمجتمع، ولن تخرج عن الأطر ذات الربحية العالية في أعمال الإنشاءات والمناجم والعقارات والمال والاتصالات؛ أي في المجالات التي لا توفر فرص عمل للأردنيين، ولا تعزز أو تحرّك المنظومة الانتاجية، وتعمّق ، في النهاية، ظاهرتي الفقر والبطالة، وتاليا التفسخ الاجتماعي ( ظاهرة المخدرات مثلا) أو التطرف الديني التكفيري والإرهابي. هل يمكن تلافي الكونفدرالية؟ أعدت عمّان ، وشغلت، وتشغّل مشروعا متكاملا لفدرالية أردنية ـ فلسطينية شرقيّ النهر، على أن تتحمل صيغة إسرائيلية ـ فلسطينية، عبء السكان في الضفة الغربية، غير أنه لم يعد واضحا ما إذا كان يمكن بالفعل تجاوز المشروع الكونفدرالي؛فأولا، غدت ضرورة التحالف العربي ـ الإسرائيلي ضد ‘التمدد الإيراني’، ضاغطة على الأنظمة الخليجية، بحيث أصبح تجاوز العقبة الوحيدة أمام ذلك التحالف ( مصير سكان الضفة الغربية) أولوية، تخضع للشروط الإسرائيلية، مما يجعل شروط واحتياجات الطرف الضعيف ( الأردن) غير مطروحة؛وثانيا، إن إنشاء مركز أردني للبرجوازية الفلسطينية ـ الخليجية، لا يمكن أن يقتصر على الأردن؛ فالفلسطينيون في الضفة وخصوصا في سوريا ولبنان، لا يمكن أن يظلوا معلقين في الهواء، ولا توجد صيغة ‘ واقعية ‘ أخرى لاستيعابهم سوى الكونفدرالية؛وثالثا، إن دعم وتنفيذ المشروع النيوليبرالي الجديد يرتبط بالحل الكونفدرالي؛ورابعا، إن ارتفاع نسبة مؤيدي الكونفدرالية في الضفة الغربية إلى حوالي 43 بالمئة ( كانت في السابق 1 بالمئة) يعكس تنامي ادراك الفلسطينيين لاستحالة حل الدولتين والدولة الواحدة ( في فلسطين) ووجود مصالح حياتية وجماعية وفردية فلسطينية في الكونفدرالية؛ أما جمهور الأردنيين من أصل فلسطيني، فيجدون أن الكونفدرالية هي الطريق الآمن والمستقر للشراكة من دون ضغوط؛ الأمر نفسه ينطبق على فلسطينيي سوريا ( بسبب الحرب) وفلسطينيي لبنان ( بسبب الاضطهاد)؛ أولئك التوّاقين إلى الاستقرار في الكونفدرالية؛ فهذه الصيغة تحوّلهم إلى مواطنين في الكونفدرالية، قادرين على الاستقرار في أراضيها (أي بالدرجة الأولى : الأردن). مطبخ القرار الأردني غدا في وضع لا يُحسَد عليه؛ فالصيغة النيوليبرالية ليس لها قاعدة اجتماعية ـ سياسية، وتطوير صيغة الفدرالية داخل الأردن سيؤدي، عاجلا أم آجلا، إلى صدامات، أما الكونفدرالية، فهي تطرح تغييرا سياسيا شاملا؛ فعلى مائدة الكونفدرالية لا يوجد سوى مقعدين.