الأردن: مجتمعان في بلد واحد!

*
مخيفة هي المعطيات التي أشارت إليها دراسة إحصائية اجتماعية، تتناول مستويات الاندماج الوطني بين الأردنيين والأردنيين ـــــ الفلسطينيين، أعدّها الباحث خالد الدباس عام 2006، لنيل درجة الدكتوراه من جامعة مونستر الألمانية.
تقول الأرقام أنّنا فشلنا، كنخبة وطنية في الحكم والمعارضة والنشاط المستقل، في مهمّة توحيد طرفي المجتمع الأردني على جميع المستويات، من المصاهرة الى الصداقة، والنشاط العام المشترك، إلى وحدة الهوية ووحدة النظرة والشعور إزاء البلد وقضاياه. تصوّروا أنه، بعد ستين عاماً من «الوحدة» الأردنية ـــــ الفلسطينية، والعيش المشترك في إطار المواطنة، أنّ نسبة الاختلاط في الزواج بين الأردنيّين والفلسطينيّين في بلدنا، لا تتجاوز 8,5 في المئة، وأنّ نسبة الاعتراف بالآخر لا تتجاوز 10 في المئة، وكذلك الحال بالنسبة الى وحدة الهوية، بينما تصل نسبة رفض إقامة العلاقات مع الآخر إلى نحو 80 في المئة، وكذلك الشعور بالرضى الاجتماعي، والثقة بالآخر، وصولاً إلى الانقسام الحادّ حول شعار «الأردن أوّلاً».
من دون الاسترسال في عرض النتائج التفصيلية، الموجعة والمثيرة للقلق، يمكن الخلوص إلى القول إنّ المجتمع الأردني يعاني انقساماً عمودياً يزداد تجذّراً. فرغم من السياسات الرسمية المثابرة التي تشجّع الاندماج، ورغم النشاطات «الوحدوية» للأحزاب والشخصيات الوطنية، فإنّ عدد المنخرطين في علاقات وطنية (وهذا لا يعني بالضرورة أنها إيجابية)، لا يزيد على نصف مليون مواطن، من أصل نحو ستة ملايين. وتشكّل الفئات الوسطى والعليا من الطبقة الوسطى التي تعيش في ظروف «الاندماج» المديني والمهني والوظيفي، الغالبية الساحقة من هذا العدد المذكور أعلاه، وخصوصاً في غرب العاصمة عمّان والأحياء الحضرية في إربد والزرقاء. لكن تلك المناطق والفعاليات «المندمجة»، هي الميدان الرئيسي للانقسام الصراعي، بينما تعيش الكتل السكانية الكبرى في انعزال مكاني وزماني. ولا يزال 54 في المئة من الأردنيين ينظرون إلى الأردنيين ـــــ الفلسطينيّين، باعتبارهم «لاجئين»، و14 في المئة يعتبرونهم كـ«ضيوف»، بينما لا تزيد نسبة الذين يقرّون بمواطنية الفلسطيني ـــــ الأردني، على 10 في المئة. وللمفارقة، فإنّ نسبة الفلسطينيين ـــــ الأردنيّين، الذين يعرّفون عن أنفسهم كـ«مواطنين أردنيين» تبلغ أيضاً 10 في المئة.
هذه المعطيات هي العامل الذي يشلّ برنامج التحوّل الديموقراطي الشامل في الأردن، حيث يدير لها معظم الفلسطينيين ـــــ الأردنيين ظهورهم، بنسبة مشاركة في الانتخابات البلدية والتشريعية لا تزيد على 29 في المئة، مقابل 89 في المئة لدى الأردنيّين، ممّن هم أقرب إلى التحفّظ إزاء تحديث القوانين الانتخابية والسياسية، خشية «السيطرة الفلسطينية». حتّى إنّ النخب الديموقراطية نفسها، تخشى حصول انشقاق وطني عميق، إذا ما جرت الانتخابات على نظام القائمة النسبية الوطنية، وهو النظام الوحيد الذي يسمح لهذه النخبة التقدمية بالحصول على مقاعد في البرلمان الذي يكتظّ بالزعماء المحليّين الذين ينظرون إلى السياسة كآلية توسّط بين المطالب الجهويّة وبين السلطة.
إنّ الشرط الأول للتحوّل الديموقراطي هو الإجماع على الهوية الوطنية، وقبول الآخر شريكاً، والثقة به، وانسيابية العلاقات الاجتماعية الوطنية. وهذا الشرط ليس متوفّراً في الأردن بعد، وربما كان من الصعب توفيره، وهذا ما يفتح الباب أمام إمكان التفكيك، أكثر ممّا يطرح إمكان التغيير التقدّمي.
أمّا الانقسام الآخر الأكثر تأثيراً، فيظهر في الميدان الاقتصادي ـــــ الاجتماعي. فالقسم الرئيسي من الكتلة الفلسطينية ـــــ الأردنية، ممّن عاش تقليدياً خارج القطاع العام والدولة، يؤدّي دوراً مهمّاً في السياسات الاقتصادية الليبرالية، وتساعد على ذلك التحويلات المالية من المغتربات الفلسطينية إلى الأقرباء في الأردن، ويبلغ حجم هذه التحويلات ما يقارب ميلياري دولار أميركي سنوياً، وتسهم بقوّة في تحسين قدرة فئات متدرّجة منهم على «المناورة الاجتماعية»، والعدول عن المشاركة في حركة الانتفاضات والاحتجاجات الاجتماعية في الريف الأردني منذ انتفاضة نيسان 1989 وحتى اليوم.
إلى ذلك، يظهر اليوم انقسامان سياسيّان فاعلان على السطح: الأوّل حول الإسلام السياسي التقليدي الذي يستقطب الأردنيين ـــــ الفلسطينيين بالدرجة الأولى، بينما يسير التأثير الإسلامي في صفوف الأردنيّين في اتجاهين متعاكسين: الاعتدال من جهة والتطرف الجهادي من جهة ثانية. الثاني يتمحور حول الموقف من مشروع الكونفدرالية مع الضفة الغربية، والذي تؤيّده غالبية ساحقة من الأردنيّين ـــــ الفلسطينيّين على العكس من مواطنيهم الأردنيّين.
رغم كلّ هذا التشاؤم، يبقى الوضع غير ميؤوس منه. فالنخب والفئات الوسطى، رغم ما بينها من خلافات، فهي تعيش في بيئة وطنية، وتربطها علاقات مختلفة، ومن الممكن تطوير أيديولوجية وطنية مشتركة بين أفرادها تسهم في بناء قوّة اجتماعية توحيديّة.
غير أنّ ذلك لا يتم بالشعارات والأناشيد، بل بسياسات وإجراءات، نعرض بعضها:
1ـــــ القيام بمراجعة شاملة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية الجديدة، لوقف الضغوط المعيشيّة على الفئات الوسطى، لأنّ ضعف حجم تلك الفئات ودورها القيادي، يزيد من الانقسام الوطني.
2ـــــ إعداد وتنفيذ خطّة تنموية وطنية لقيادة القطاع العام، تهدف إلى تحقيق مكاسب حياتية جدّية للغالبية الشعبية، وتشكّل قضية مشتركة لجيل جديد من الشباب.
3ـــــ إطلاق حوار حيّ لتحديد إطار وعناصر الهوية الثقافية الوطنية الأردنية، وتعميمها في المدرسة والجامعات ووسائل الإعلام.
4ـــــ العودة إلى نظام الخدمة العسكرية لمدّة سنتين، على أن يكون غير خاضع للتأجيل بعد سنّ الثامنة عشرة، وعلى أن يكون برنامجه شاملاً، بالإضافة إلى التدريبات العسكرية، دروساً ثقافية ومهنية ومشاركة مباشرة في المشاريع التنموية الوطنية.
5ـــــ تأمين حقّ العودة للّاجئين الفلسطينيّين الراغبين منهم ومنحهم الجنسية الفلسطينيّة مع حقّ الإقامة في الأردن، واعتبار حقّ العودة الفعليّة، قضيّة وطنيّة غير قابلة للتفريط بها، وقضيّة معياريّة للسياسة الأردنية. في اعتقادنا، يفتح هذا النقاش سياقاً للاندماج الوطني في صفوف أولئك الذين يريدون الانخراط في الوطنية الأردنية، من دون المساس بالحقوق السياسية للمتمسّكين بالهوية الفلسطينية، أو مكتسباتهم الحياتية في الأردن.
* كاتب أردني

Posted in Uncategorized.