ارتباك عمّان: عجز أم قرار؟
من احدى التظاهرات المطالبة بالاصلاح في عمان الشهر الماضي (خليل مزراوي ــ أ ف ب)
منذ انطلاق «الربيع العربي» عاشت عمّان فترات متأرجحة من الحراك والمبادرات السياسية الساعية إلى إعادة تأسيس الدولة، ثم جاءت الأزمة السوريّة لتضيء على الارتباك الأردني في التعاطي مع المتغيرات، في ظل ضغوط خليجية وأميركية لتطبيق أجندات، قد تأتي على حساب الكيان الأردني
الأردن مرتبك. مواقفه من الأزمة السورية، المتراوحة بين مدّ وجزر، هي التي ظهّرت ارتباكه كمعطى صار من مسلمات المشهد الإقليمي. لكن، من الداخل، سيبدو الارتباك شاملاً منذ ربيع عام 2011. كان يمكن المملكة أن تتأسى بنظيرتها المغربية نحو برلمانية إسلامية تُلحق عمّان بعواصم الربيع العربي، وتؤمّن لها تدفّق الأموال الخليجية لإنقاذها من أسوأ أزمة مالية في تاريخها. لكن عصبية الدولة حالت دون انطلاق عملية سياسية من شأنها أن تؤول، عبر إجراء صفقة مع تحالف إخواني ليبرالي، إلى انقلاب في هوية الدولة وتركيبها الأساسي نحو صيغة واقعية من الوطن البديل. قد تكون صفقة كهذه راودت الملك؛ ستحلّ مشاكله. لكنه تردد؛ ذهب في هذا الاتجاه مع حكومة عون الخصاونة، ثم تراجع. القرار تكويني وتاريخي وليس إجرائياً. وبذلك، فهو ليس قراره؛ تتطلب الصفقة مواجهة البيروقراطية والتفكيك السياسي للجيش والأجهزة.
هذه القوى التي يسميها الإسلاميون والليبراليون «قوى الشدّ العكسي». لكن العائق الأكبر هو ذاك الذي يتمثل في ظهور الحراك الأردني الراديكالي في توجهاته الوطنية والاجتماعية، حراك بطيء لكنه جذري في دفع الكتلة الشعبية الشرق أردنية للتبلور كعامل سياسي رئيسي في البلاد.
مطالب الحراك الأردني لا تتعلق بالإصلاحات الليبرالية التي أصبحت عنوان «الربيع العربي»، بل بمحاكمة طبقة الفاسدين النيوليبراليين المتهمين بنهب موجودات الدولة، وبالتراجع عن سياسات الخصخصة، واستعادة القطاع العام الاقتصادي والخدمي، وإطلاق خطة وطنية للتنمية في المحافظات المفقَرة والمهمّشة. وعلى مدار العامين الماضيين، طُرحتْ أفكار وجرت مساعٍ لعقد تسوية بين النظام والحراك على أسس اجتماعية، بما يضمن مواجهة ناجعة مع التحدي الإخواني. لكن تلك الجهود اصطدمت بالنفوذ الصلب للفئات الكمبرادورية وتحالف الفاسدين، وانتهت إلى الفشل.
الحل الاجتماعي واقعي لجهة حل الأزمة المالية للدولة عبر استرداد المنهوبات وإيرادات المؤسسات المخصخصة، وإعادة توزيع الثروة وتمويل تحسين الخدمات، بواسطة قانون الضريبة التصاعدية على الدخل والأرباح. وقد نوقش هذا الخيار بجدية، في الصحافة والندوات العامة، وتحوّل إلى شعارات شعبية. لكن البعد الوطني للحراك الأردني، أي ذلك المتعلق بحسم هوية الكيان وإنهاء المشاريع والسياسات الغامضة لإنتاج صيغ ما لحل القضية الفلسطينية على حساب الأردن، نُظر إليه كمطلب بعيد المنال لاصطدامه بالتزامات معاهدة وادي عربة مع إسرائيل. اكتشف الحراك الأردني، بوضوح، أنه غير قادر على تحقيق ذاته خارج الصدام مع الولايات المتحدة وإسرائيل، فانتشرت موجة جديدة من العداء للإمبريالية والصهيونية، هي التي يحاصرها الإسلاميون بالدعاية الحربية ضد سوريا.
في النهاية بقي النظام الأردني معلقاً في الهواء، غير قادر على المضي في أي من الخيارين المتاحين لإعادة تأسيس الدولة. هذا هو العجز الداخلي. وعلى المستوى الدولي، وخصوصاً في النصف الثاني من عام 2011، تصاعدت الضغوط غير المباشرة للأميركيين والأوروبيين لإلحاق الأردن بمسار الربيع العربي. في المقابل، طرحت السعودية، في صيف ذلك العام، فكرة منح الأردن طوق نجاة باقتراح ضمه إلى عضوية مجلس التعاون الخليجي. كان الاقتراح يتحسس انكشاف الوضع الإقليمي للمملكة الهاشمية بعد سقوط حسني مبارك وانهيار محور الاعتدال. غير أن كل ذلك سقط في حمأة التطورات الدراماتيكية في سوريا. تراجعت ضغوط «الإصلاح» الأميركية ومساعي الإنقاذ السعودي معاً، لمصلحة الضغوط الخليجية التي تبتزّ الأردن لفتح حدوده للسلاح والإرهابيين والاستعداد لزج جيشه في الحرب.
حتى الآن، رفضت عمان التورّط الذي ترفضه بيروقراطية الدولة والجيش والأمن، من جهة، ويرفضه الحراك الشعبي من جهة أخرى؛ تحالف الفريقان ـــ موضوعياً ـــ في جبهة الضدّ للإصلاحات المنطوية على إنتاج صيغة إسلامية للوطن البديل، وللخضوع للمطلب الخليجي ـــ الإخواني بالتدخل في سوريا، بما يثيره من مخاوف تمدد نفوذ الإخوان والسلفيين والمغامرة بالمؤسسة العسكرية التي تمثّل، اليوم، الضمانة الوحيدة للكيان الأردني.
لجأ الأردن مجدداً إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بملياري دولار، لا غنى عنهما لتسيير شؤون الدولة التي وصلت مديونيتها إلى أكثر من 20 ملياراً. وقد يتفهم الصندوق، هذا العام، أنه ليس بالمستطاع تلبية كل شروطه خوفاً من ردود الفعل الشعبية. ولكن ماذا عن العام المقبل. الفجوة التمويلية لعام 2012 تقترب من خمسة مليارات ستضاف، بعد أشهر قليلة، إلى خمسة مليارات أخرى لعام 2013. مسار مغلق، لا حل له إلا بالتخلي عن الدولة أو تغييرها جذرياً في ثورة اجتماعية.
كل ذلك يقع في مجال العجز، عجز القصر في مواجهة المستجدات الكبرى. لكن الاستمرار في ممانعة الابتزاز الخليجي حتى الآن، ينطوي، كما يمكن المرء أن يلاحظ، على قرار. هو قرار التسليم بحقيقة أن الخيارات الكبرى في الأردن تصنعها الدولة ولا يختارها النظام.
…فإذا كان هنالك، بالفعل، محور ممانعة ومقاومة، فلينتبه إلى أن الأردن الذي يولد اليوم، هو، موضوعياً، عضو محتمل في هذا المحور. ولتعملْ خلية استراتيجية معنية على تسريع الدور العراقي الإنقاذي في البلد الذي لا يزال، منذ صدام حسين، يتعطّش للنفط الرخيص والتعاون الاقتصادي الثنائي. ستكون هذه ضربة مركزية ضد الانقسام الشيعي السنّي، ضربة تحتاج إلى قرار واع ومقدام ومتعفّف عن الشروط.
لكن، بذلك أو بدونه، ومهما كانت الصعوبات والانتكاسات والاحتمالات، نجح الأردن في امتحان الدولة. فهل ينجح الأردنيون في امتلاك دولتهم؟ سؤال مطروح في فضاء الهلال الخصيب.
تعاون استخباري وهروب من الاستحقاق
المشاورات الأميركية السعودية القطرية الأخيرة مع المسؤولين الأردنيين تشير الى رفض الأردن للمشاركة في أي سيناريو عسكري في سوريا. لكن ماذا عن التعاون الاستخباري؟ مدير الاستخبارات الأردنية، فيصل الشوبكي، كان توجه مرتين (في تموز وآب الماضيين) الى واشنطن، حيث اجتمع بمدير الاستخبارات الأميركية، الجنرال ديفيد بترايوس (الصورة). فهل من قبيل الصدفة أن يتبع كل من هاتين الزيارتين حدث كبير؟
فبعد الزيارة الأولى، وقع تفجير مكتب الأمن القومي السوري في دمشق، والذي تزامن مع زيارة غامضة من حيث توقيتها لوزير الخارجية البريطاني وليام هيغ لعمان، بينما كان الملك عبدالله الثاني في زيارة للولايات المتحدة. وبعد الزيارة الثانية، وقع انشقاق رياض حجاب ولجوؤه الى الاردن.
المعلومات المتداولة متضاربة إلى أبعد حد. تقول المصادر إن الشوبكي ـــ وهو المسؤول الأردني الأكثر تشدداً إزاء رفض التدخل العسكري في سوريا ـــ اجتمع، بحضور بترايوس، مع مدير الاستخبارات التركية ورئيس الموساد. وتشير بعض المصادر إلى أن الولايات المتحدة كانت تأمل باقتراب نهاية النظام السوري بعد ضربة انشقاق حجاب، لهذا كان من المهم الحديث والتنسيق مع مديري الاستخبارات في المنطقة الذين وافقوا جميعاً على وضع قواتهم العسكرية البرية والبحرية والجوية على أهبة الاستعداد للتدخل في سوريا في حال انهار النظام تحت ذريعة تأمين الأسلحة الكيميائية.