نقد كتاب وهيب الشاعر–الأردن إلى أين؟
ناهض حتّر
كتاب السيد وهيب الشاعر، “الأردن… إلى أين؟ –الهوية الوطنية والاستحقاقات المستقبلية” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت 2004، هو أقرب ما يكون إلى مقالة رأي مسترسلة منه إلى بحث مستوفٍ للشروط الأساسية للبحث العلمي، بما في ذلك اغفاله لمصادر ومراجع أساسية، وللوثائق، والملاحظات العيانية الحديثة، والسجال مع وجهات النظر الأخرى والمقارنة، ومعالجة الوقائع التاريخية والسياسية التي تعترض منطق التحليل… الخ.
وحتى حين نتعامل مع الكتاب بصفته مقالة رأي، فإننا نستطيع أن نسجل عليه الانتقائية المفرطة في ايراد الشواهد التاريخية والسياسية، وازدواجية المعايير في التحليل–واحياناً في فقرة واحدة–والغلو في تأكيد فكرة مسبقة بأي ثمن ومن دون شواهد.
الكتاب، بالمحصلة، هو أطروحة سياسيّة، تحشد ما يناسبها من الشواهد التاريخية والوقائع والأفكار، لتأكيد ذاتها، دون الالتفاف إلى أصول البحث والجدل وضرورات المنطق الداخلي، الأكثر بساطة، في كتابة المقالة.
والأطروحة الأساسية للكتاب هي الآتية:
يقول المؤلف: “ان السيناريو الأكثر واقعية وعقلانية في المستقبل المنظور هو السلام الإسرائيلي–الفلسطيني الذي ينضم إليه الأردن، بسبب حجم الشعب الفلسطيني فيه، وكما تصوره شمعون بيريز، وكما يقبل به العرب، وتشكيل اتحاد ثلاثي ينتقل إليه اللاجئون الفلسطينيون في لبنان وسورية” (ص 90).
ويتوقع المؤلف أنه “إذا ما تحقق التفاؤل، وزاد عن ذلك، واستفادت المنطقة العربية من تجارب الصيغ الاقليمية الثرية، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي، فقد تقوم الفدرالية السورية، وتخلق مجتمعاً لا يقل أهميّة على المدى البعيد عن أي من دول أوروبا الكبرى” (ص 91)
ويبدي المؤلف انزعاجه من أن هذه “السيناريوهات المتفائلة، لم تنعكس بعد على المجتمعات في الأردن وفلسطين واسرائيل (…) وخصوصاً ليس هناك طروحات سياسية للجمع بين غرب النهر وشرقه، حتى على مستوى النخب” (ص 91)
لكن المؤلف كان قد اشار في (ص 84) إلى “أن أحوال الفلسطينيين في الأردن المزدهرة بالمقارنة مع اشقائهم في مواقعهم الأخرى والمختلفة، وكذلك بالنظر إلى اعدادهم الكبيرة بالمقارنة مع الأردنيين وبقية الفلسطينيين، وبالنظر إلى تفوقهم الحضاري العام، فإنه من الممكن (..) أن يتولى المجتمع الفلسطيني في الأردن، قيادة كامل الشعب الفلسطيني في مجالات الحياة كافة، بما فيها تنمية الهوية الفلسطينية، وان يتحقق الثقل الفلسطيني في الأردن في المجال الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، بما يجعل باقي الفلسطينيين امتداداً له ومرتبطين به، وكذلك ينصهر الشعب الأردني فيه، ويتحقق الوطن البديل.” (ص 84)
وعلينا ان نلاحظ أن هذا السيناريو لا ينفصل عن سيناريو الاتحاد الثلاثي الأردني–الفلسطيني–الإسرائيلي، ولا عن سيناريو الفدرالية السورية. إلا انه يتوقع، صراحة، انصهار الأردنيين في الهوية الفلسطينية.
هذه المآلات المقترحة لمستقبل الأردن والأردنيين، تتطلب، بالطبع، نفي وجود الهوية الوطنية الأردنية.
ويحدد المؤلف معيارين للهوية الوطنية. فهو يقول ان “جوهر الهوية الوطنية هي العصبية التي تربط الفرد بمجتمعه” (ص 17) وهي، عنده، “حالة نفسية” وليست “خياراً” أو “مشروعاً مشتركاً.” وهذه–كما تلاحظون–معيار سيكولوجي بحت غير قابل للتحليل الاجتماعي والاقتصادي. وقد استدركه المؤلف بالإشارة إلى أن “الهوية الاجتماعية والثقافية المميزة” هي “الشرط الأساسي لتكوين الهوية الوطنية“.
وعلى كل حال، فإن المؤلف يقرر أن الأردنيين يفتقرون، في الآن نفسه، إلى العصبيّة وإلى الهوية الاجتماعية الثقافية المميزة. وهو، في أربع صفحات فقط ( ص 20 إلى ص 24) وتحت عنوان “حداثة الكيانية الأردنية” يقرر جملة من الادعاءات التي لا تصمد للنقد، بل ان بعضها مضحك فعلا.ً
***
جميع الكيانات والهويات الوطنية في المشرق العربي–ما عدا مصر–حديثة ومتساوية من حيث شرعيتها التاريخية. ولقد عاشت وما تزال على توتر عميق بين الهويات المحلية المناطقية والطائفية والاثنية–التي تبلورت في الأوان العثماني–وبين الهوية القومية العربية. فهي مطعون بها من أسفل ومن أعلى. لكنها، مع ذلك، صمدت، ليس فقط لأنها بنى في منظومة اقليمية ودولية ضاغطة، ولكن، أيضاً، لأنها قطعت أشواطاً في التبلور الذاتي في إطار الدولة الوطنية.
وهذا ينطبق بالقدر نفسه على سورية ولبنان والأردن وفلسطين والعراق ودول الخليج. ومع ان الهوية الأردنية هي الأكثر انسجاماً من النواحي الاثنيّة والطائفية والاجتماعية (وذلك لأن الأغلبية الساحقة من الأردنيين عرب سنة من ابناء العشائر الذين ابتكروا صيغاً خلاقة لإدماج العشائر المسيحية والوافدين)، إلا ان الهوية الوطنية الأردنية هي الأكثر عرضة للتشكيك والهجوم واللعنة. بل ان المؤلف ينزع إلى القول إلى انه حتى الإرادة الجمعية للأردنيين بالانخراط في هوية وطنية لا تمنحهم هذه الهوية!!
اشكالية “الهوية الوطنية” هي اشكالية رئيسية بالنسبة لكل بلدان المشرق العربي، أولاً لجهة التوتر الحاصل بين شرعية الهوية العربية–والاسلامية وبين شرعية الهوية المحلية–الوطنية، وثانياً لجهة الانقسامات الداخليّة الاثنية والدينية والطائفية والاجتماعية الثقافية، وثالثاً لجهة عدم تطابق الحدود السياسية مع الحدود الاجتماعية.
في فلسطين ساهم عدم تبلور الهوية الوطنية الفلسطينية لصالح النزعات القومية والإسلامية، والانقسامات الاجتماعية–الثقافية بين اهالي المدن واهالي الريف، إلى تسهيل مهمة الصهاينة في تشريد الشعب الفلسطيني، وكسر المجتمع المحلي في فلسطين العام 1948. وقد ظلت التوترات الحاصلة بين الهويات الفلسطينية والعربية والاسلامية، ماثلة حتى هزيمة حزيران 1967، عندما انتصرت الهوية الفلسطينية.
المثال اللبناني شديد التعقيد من حيث صدام الهويات الطائفية المستندة، أيضاً، إلى انقسامات اجتماعية–ثقافية، وولاءات اقليمية متصارعة. وقد أدى ذلك إلى تاريخ من الحروب الأهلية، ربما تستعر مجدداً.
الهوية الوطنية السورية هي الأخرى تعاني من التوترات نفسها بما فيها الانقسامات الطائفية والاثنية. بالإضافة إلى أن الهوية الوطنية السورية مجروحة بالاقتطاعات الحاصلة من سورية التاريخية، والتي ما يزال العقل الجمعي السوري يرفضها، وينظر إلى المدى الشاميّ باعتباره امتداداً. وينزع المثقفون الديمقراطيون السوريون الآن، إلى المطابقة بين الهوية الوطنية السورية وحدود الجمهورية العربية السورية، باعتبار ذلك مقدمة للتحول الديمغرافي.
والانشقاقات الاثنية والطائفية في العراق، معروفة للقارئ جيداً، بحيث لا نريد التوقف عندها.
الهوية الوطنية الأردنية، بالمقابل، لا تعاني من انقسامات داخلية دينية أو طائفية أو اثنية أو اجتماعية–ثقافية، فقد ابتدعت المجتمعات المحلية الأردنية صيغاً خلاقة للاندماج بين المسلمين والمسيحيين. ومسلمو الأردن كلهم سُنّة، بينما لا تشكل الأقليات الاثنية كالشركس والشيشان والأرمن، تجمعات يُعتَدّ بها، بما ساهم في اندماجها الكامل في العصبية الأردنية. وبالنظر إلى أن الأردنيين عرب وأغلبيتهم مسلمون ويتحدرون جميعاً من قبائل عربيّة أصيلة، فإن التماهي بين الهويتين العربية والإسلامية والأردنية، حاصل بقوّة. التوترات الداخلية هي بين المجتمعات المحلية الثلاث التي تشكل منها المجتمع الأردني الحديث: الشمال والوسط والجنوب. لكنها توترات اندثرت، واقعياً، في إطار الدولة الحديثة التي من مآثرها انها عملت، بالفعل، على إدماج المجتمعات الثلاث. وبما انه لا توجد أسس اجتماعية–ثقافية أو دينية أو طائفية أو اثنية للانقسام بين مناطق الأردن الرئيسية الثلاث، فلم تخلخل التوترات الخفيفة بين هذه المناطق بنية العصبية الأردنية.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار رمزية الزعامة السياسية، فسوف نلاحظ ان جميع الفعاليات الأردنية التي شاركت في المؤتمر التأسيسي، والمؤتمر الوطني الأردني الأول سنة ١٩٢٨ والتي مثلت كل المناطق والزعامات الأردنية، انتخبت طواعية، أحد زعماء الكرك، الشيخ حسين الطراونة، رئيساً دائماً للمؤتمر، فاصبح بذلك زعيماً معترفاً به على النطاق الوطني. كذلك، فقد برزت في الستينات شخصية قيادية من اربد، الشهيد وصفي التل، باعتباره زعيماً وطنياً معترفاً به من جميع الأردنيين في كل مناطقهم–ما عدا معارضيه السياسيين بالطبع–انه لمن المدهش أن المؤلف يتجاهل اللوحة الاقليمية للهويات الوطنية في بلدان المشرق العربي، ويركز على التناقضات الخاصة بإحداها، فقط، أي الهوية الوطنية الأردنية.
ان الدعوة إلى تأسيس كيان أردني تمخضت عن اجتماعين عامين لزعامات الأردن 1920، قبل مجيء الأمير عبد الله، وقد تكرست مضامين الهوية الأردنية في مؤتمر تأسيسي صدر عنه الميثاق الوطني لعام 1928. وكل ذلك يتجاهله المؤلف، ربما عن عمد.
الهوية الوطنية الأردنية مجروحة بالطبع لأنها لا تتطابق مع حدودها الاجتماعية الثقافية التي تشمل درعا والجولان في سورية ووداي السرحان (في السعودية).
يتحدث المؤلف عن (يمين قطري) في الأردن. وهو تعبير بعثي. ولكنه يتناسى وجود يسار قطري أيضاً. وهو يسار اجتماعي مميز للهوية الأردنية التي تنطلق من قيم المساواتية والديمقراطية العشائرية.
يتجاهل المؤلف ولادة شاعر كبير كرس ابداعه للوطنية الأردنية، في وقت مبكر، هو مصطفى التل (عرار) مثلما يتجاهل أن الشعب الأردني قدم واحداً من أهم الروائيين والمفكرين العرب، غالب هلسا، الذي أبدع في تصوير المجتمع الأردني وثقافته المحلية، بروح ترقى إلى المستوى العالمي.
يتناسى المؤلف أن الجيش الأردني–على الرغم من انه انهزم كغيره من الجيوش العربية العام 1967-كان هو الأكثر بلاءً في المعارك واوقع أكبر عدد من القتلى والجرحى في صفوف الاسرائيليين. وخاض ما أصبح منطلقاً ورمزاً للوطنية الأردنية الجديدة، معركة الكرامة 1968.
لماذا يكون الأثر الإسلامي في فلسطين جزءاً من الهوية الوطنية الفلسطينية ولا يكون كذلك في الأردن؟ ولماذا الاهرامات تشكل رمزاً للهوية الوطنية المصرية، ولا تكون البتراء كذلك؟
المؤلف لا يعرف المجتمع الأردني الحديث، الذي طوّر نخباً في كافة الحقول في المهن المختلفة والجامعات والأعمال والصحافة…الخ.
يعتبر المؤلف ان الهبة الشعبية في 1989، مجرد “احداث معان” متجاهلا أنها امتدت، تلقائياً إلى سائر المدن الأردنية، على شكل مظاهرات عنيفة أو احتجاجات أو توتر سياسي من معان إلى الكرك والطفيلة والسلط واربد….
وباعتقادنا ان العام 1989 كان مفصلياً وانقلاباً داخلياً في الأردن، من حيث انه أظهر الهوية الوطنية الأردنية بجلاء وفصلها عن المداخلات الفلسطينية أو تلك المتعلقة بالنظام السياسي الأردني.
يدّعى المؤلف–ولا نعرف من أين حصل على الأرقام–ان الأردنيين تطور ديمغرافياً من ربع مليون نسمة إلى مليونين ونصف نسمة بينما تطور الفلسطينيون من نصف مليون إلى عشرة ملايين. فهل يبرر ذلك اندماج الأردنيين في الهوية الفلسطينية؟! غير ان الأرقام غير صحيحة بالأساس، ومفبركة لأغراض الكاتب الذي يدعو إلى اندماج الأردنيين في صيغة فلسطينية–اسرائيلية.
يتجاهل المؤلف، كلياً، التكوين الجغرافي–السياسي لإقليم شرق الأردن الذي يمتد من جنوب دمشق إلى العقبة. وهو الذي شكل، دائماً، منطقة فاصلة بين المراكز الامبراطورية في فلسطين وسورية وبين الصحراء العربيّة. وهذه المنطقة التي تقع على الحد الفاصل هي من السعة الجغرافية والأهمية الاستراتيجية، بحيث دفعت الامبراطوريات، دائماً، إلى التفاهم مع صيغ دولتية محلية، تملأ الفراغ، وتحافظ على أمن المراكز، وتحفظ خطوط المواصلات، بأقل التكاليف الممكنة. ولذلك كان اقليم شرق الأردن، دائماً، مؤئلاً لدول/أو دولة محلية من الآدوميين والمؤامبين والعمونيين إلى الغساسنة إلى الأمويين الذين كان اقليم شرق الأردن، حصنهم السياسي، إلى العثمانيين الذين اتخذوا ترتيبات مشابهة مع الأردن، وكذلك الانكليز. لكن الدولة المحلية التي تطابقت مع الموقع الجغراسياسي لإقليم شرق الأردن، فقد كانت الدولة النبطية التي امتد حكمها على كامل مساحة الاقليم من تبوك إلى جنوب دمشق.
علام كان يقوم البناء الاجتماعي–السياسي لإقليم شرق الأردن عبر التاريخ؟ انه كان يقوم على وجود قبائل بدوية تستقر في الاقليم، وتشتغل في الفلاحة والتجارة، لكن من دون أن تفقد طابعها التنظيمي البدوي كقوى مقاتلة. وهو شرط تفاهمها مع الامبراطوريات لضمان طرق المواصلات والأمن. وهذا ما أعطى للأردنيين تاريخياً–هوية اجتماعية–ثقافية مميزة من حيث انهم انصاف بدو–انصاف فلاحين.
وهكذا ينظر الفلاح الفلسطيني إلى الأردني باعتباره بدوياً؛ وينظر البدوي الصحراوي إلى
الأردني باعتباره فلاحاً.
يقول المؤلف انه “في التاريخ الغابر، كانت الدولة النبطية مرتبطة بالحجاز” (ص 20) والحقيقة ان اقساماً من الحجاز وسيناء كانت ملكية نبطية. أما ان ادارتي فلسطين والأردن كانتا متلازمتين عرضيا ً وليس أفقياً، فهو غير صحيح تكذبه الوثائق التاريخية. فباستثناء فترات قصيرة كانت أراضي شرق الأردن الحالي، متطابقة مع ترتيبات إدارية خاصة بها بالنسبة إلى الجنوب والوسط. بينما انفصل شمال الأردن أحياناً أو ارتبط بامتداده في حوران السورية.
غير ان البحث المجدي عن التكوين الاجتماعي الأردني الحديث لا يعود بنا إلى الأزمنة الغابرة بل إلى الفترة الأيوبية–المملوكية وخصوصاً إلى الفترة العثمانية. وقد عرف الأردن خلال هذه الفترات، نشوء دويلات محلية، لعبت الدور الاستراتيجي نفسه في إطار الصراعات الاقليمية والدولية.
نحن نعتقد أن “التكوين الأردني الحديث” يعود، بخاصة، إلى الفترة العثمانية، وخصوصاً إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث شهد الأردن، تغييرات ديمغرافية عميقة، أدت إلى استقرار فلاحي–بدوي عميق، ونشوء التحالفات السياسية المحلية، وازدهار الأرياف، بفعل اتجاه الامبراطورية العثمانية، بعد غزوة ابراهيم باشا، إلى إعادة تنظيم الإدارة في الأردن عبر الحث على استقرار البدو، ودعم المشاريع الزراعية وانشاء الإدارات، واقامة الحاميات العسكرية… الخ، وهو ما خلق سباقاً للاستقرار وتطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الأردنية.
ولو كان المؤلف قد اطلع على مجموعة رسائل الدكتوراه التي أشرف عليها الدكتور محمد عدنان البخيت وكذلك كتاب الدكتورة هند أبو الشعر، تاريخ شرق الأردن في العصر العثماني، لكان توصل إلى أن الأردن الحديث، كان يتكون ديمغرافياً واجتماعياً وثقافياً في القرنين الثامن والتاسع عشر. خلال هذه الفترة، اتجهت الدولة العثمانية إلى الاعتراف بالحقائق الديمغرافية–الاجتماعية–السياسية الناشئة في شرق الأردن، وهو ما انعكس في ترتيبات إدارية عمودية شملت أراضي الأردن الحالي، وانتهت إلى قرار اقامة ولاية خاصة تشمل تلك الأراضي.
لقد شارك الأردنيون في الثورة العربية الكبرى، وفي إقامة المملكة السورية، وشاركت النخبة الأردنية من أبناء اغنياء الفلاحين في فعاليات المملكة السورية. وقد اتجه هؤلاء، بعد سقوط الدولة الفيصلية، إلى قرار تاريخي بإقامة “رابطة مدنية للعش الصغير” في مؤتمر أم قيس 1920، قبل مجيء الملك عبد الله الأول إلى البلاد.
لماذا تجاهل المؤلف، مؤتمر أم قيس 1920، والمؤتمر الوطني الأردني الأول 1928، وانبثاق الحركة الوطنية الأردنية التي ناوأت النظام والانتداب الانكليزي طوال العشرينات–الثلاثينات؟!
الاجابة يمكن استنتاجها من كونه اعتمد على شواهد انتقائية لدعم فكرته من عدم وجود هوية وطنية أردنية.
هل كان أهل السلط هم الذين تأثروا بنابلس أم العكس الذي حصل باندماج النوابلسة في التقاليد السلطية؟!
هل كان اهل الشمال منشدين إلى الوطنية السورية الناشئة أم إلى جزءاً من الأردن هو درعا والجولان كانا قد انتزعا من اقليم شرق الأردن وشارك زعماؤهما في مؤتمر أم قيس الذي طالب بكامل حدود شرق الأردن؟!
ماذا يقول المؤلف إزاء تجربة شاعر الأردن عرار الذي يمجد، بإبداعية عالية، المكان الأردني والتقاليد الأردنية؟! ولماذا تجاهل أن الأردن أخرج واحداً من أهم الروائيين والمفكرين العرب، غالب هلسا… الذي ابدع في روائعه (زنوج، وبدو وفلاحون) و (سلطانة) صورة الهوية الاجتماعية–الثقافية الأردنية؟!
لماذا تجاهل المؤلف تجربة الشهيد وصفي التل. وهي ذروة من ذرى الوطنية الأردنية؟!
هل كان الصدام مع المنظمات الفلسطينية العام 1970 بين النظام الأردني والمنظمات الفلسطينية… أم كان تعبيراً عن هبة شعبية أردنية ضد تلك المنظمات؟! وهل الذي حما النظام هو الطائرات الاسرائيلية… أم اندفاع الأردنيين إلى القتال دفاعاً عن هويتهم ووجودهم؟!
انه لمن المضحك ان يقول المؤلف في فقرة واحدة أن الاهرامات الفرعونية تشكل جزءاً من الهوية الوطنية المصرية بينما الآثار الأردنية تعود إلى حضارات بالية؟! ولماذا تكون الآثار الإسلامية في فلسطين جزءاً من فعالية الوطنية الفلسطينية بينما تتركز هذه الآثار في الأردن بالهوية العربية والإسلامية فقط!
وماذا عن البتراء؟!
لماذا يتجاهل المؤلف، كلياً، نشاط الحركة–الوطنية الأردنية في النصف الأول من القرن العشرين؟!
هل صحيح أن الفلسطينيين أكثر تحضراً من الأردنيين؟
هل صحيح أنهم أكثر تحرراً من القيم العشائرية والمناطقية، ان الوقائع تكذب هذا الادعاء.
المؤلف لا يعرف شيئاً عن الأردنيين المحدثين… ولا عن تشكل النخبة الأردنية الحديثة في كل القطاعات المهنية والصحافية والأدبية والاقتصادية…الخ.
انه يتجاهل الشواهد التاريخية والواقعية معاً لكي يبرهن على فكرة مسبقة وهي عدم وجود هوية وطنية أردنية وهدفه الوحيد هو القول بأن الكيان الأردني يفتقر إلى الشرعية التاريخية أو الفعالية الاجتماعية–السياسية، اللازمتين لاستمراره بحيث يصبح من الضروري اندماجه في الاتحاد الإسرائيلي–الفلسطيني.