*
تفجيرات بغداد، سواء أكان وراءها «القاعدة» كما أعلن التنظيم، أم البعثيون كما أعلن رئيس الوزراء نوري المالكي، أم طهران وحلفاؤها العراقيون كما أعلن الشيخ حارث الضاري، هي في الأخير تعبير عن زوال سحر الرئيس الأميركي باراك أوباما: لم تعد الأطراف الفاعلة في العراق تنتظر تدخّل إدارته من أجل تسوية، بدت منذ مطلع هذا العام، وهي كذلك بالفعل، ممكنة. وقد أجابت الإدارة على الرسالة بأن خطتها للانسحاب المجدوَل مستمرة. وسوف تستمر بالطبع، فهي نتيجة حتمية لفشل استراتيجي. ولكن ربما لم تعد هناك إمكانية لخاتمة تسووية لمغامرة جورج بوش العراقية، وأصبح مشروعاً تساؤل المحلل الأميركي كريستوفر ديكي: هل سيكون الانسحاب «موكباً استعراضياً» أم انكفاءً فوضوياً يخلّف وراءه حرباً أهلية مدمرة؟
ربما يرى المولعون بنظرية المؤامرة أو بتفسير السياسات على أساس العداء الحضاري والديني، أن هذا هو بالضبط ما تريده الولايات المتحدة. لكن، في الواقع الملموس، سيكون اتجاه التطورات إلى خاتمة كهذه (بالإضافة إلى كلفته الباهظة بالنسبة للشعب العراقي) ضاراً بالمصالح الأميركية في العراق والمنطقة، تلك المصالح التي أظهر أوباما استعداده لإنقاذ ما يمكن إنقاذه منها، بالتسويات.
قدّمت سوريا لإدارة أوباما إطاراً مدروساً لنجاح سريع ومضمون في الشرق الأوسط، يقوم على تلافي الاصطدام بالعقدة غير القابلة للحل، أي الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، والتركيز على تسويات ملحة وممكنة (العراق، لبنان، النظام العربي، وإيران) حيث يمكن تحقيق إنجازات تخلق، لاحقاً، إمكانيات موضوعية لتسوية عربية ــــ إسرائيلية. إلا أن أوباما انجر، تحت تأثير العناصر التقليدية من الحزب الديموقراطي ودبلوماسية الاعتدال العربي
ما عشناه في إجازة الحلم الأوبامي الجميل سوف تحل محله اليقظة على حقائق الصراع
معاً، إلى حيث الفشل المحتوم. فبينما كانت ملفات المنطقة مفتوحة على مائدة مفاوضات بلا ضفاف بانتظار صفقات ليست إسرائيل طرفاً فيها، اختار أوباما السير وراء التقليد الديموقراطي من عهد كلنتون: دبلوماسية ماراثونية لتحقيق مكاسب صغيرة وهشة على المسار الفلسطيني. وهكذا، تبدّدت عاصفة أوباما لتنحصر داخل فنجان إسرائيلي: تجميد المستوطنات مقابل التطبيع.
فحالما قررت إدارة أوباما منح الأولوية وتركيز الجهود للحصول إلى إنجاز ما على المسار الفلسطيني ــــ الإسرائيلي، أضحت أسيرة مفاوضات بلا أفق مع اليمين الإسرائيلي، ومستعدة لتقديم تنازل إثر آخر (تحييد القدس من تجميد الاستيطان مثلاً)، وصولاً إلى طرح رؤية سوف تأخذ بمعظم مطالب وتحفظات اليمين الإسرائيلي، ما يجعلها في النهاية عاجزة عن تصوّر تسوية ذات صدقية، لكنها ترتكز على تطلب تنازلات فلسطينية وعربية (ابتداءً من التطبيع وانتهاءً بالدولة اليهودية وشطب حق العودة، وبينهما الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل). وهذا مسار آخر للتفجير في فلسطين والأردن ولبنان، وتجديد المواجهة مع سوريا، بل الانهماك بتكوين حلف دولي ــــ عربي ــــ إسرائيلي لضرب إيران. وباختصار، الميل العام للتطورات يتجه نحو استعادة البوشية.
فلسطينياً، تمترست «السلطة» وراء التزاماتها الإسرائيلية، في مؤتمر وحراك وضعا حزب السلطة، «فتح»، على سكّة دحلانية جماعية صريحة. والهدف ليس الوصول إلى «سلام»، بل إلى تحالف حربي إسرائيلي ــــ فتحاوي ضد «حماس» في غزة. والمفارقة هي أنه يتعين على الجهود الفلسطينية والعربية الضغط على إدارة أوباما لإقناع إسرائيل بصفقة تتيح لها أقلّه تحجيم المقاومة وسط التطبيع مع العرب، لقاء تجميد بناء المستوطنات. فهل يكون ثمن «الدولة» أقل من حرب مع إيران وتوسع إسرائيلي في الأردن وشراكة في ثروات الخليج؟
لبنانياً، عادت المحكمة الدولية تطل بقنابلها الانشطارية: اتهام قضائي اتضح أنه لا يزال ممكناً لسوريا وحزب الله، ما يعني تفجير لبنان، حيث هناك أطراف لا تزال مصممة على خوض الحرب الأهلية.
على مستوى تجديد النظام العربي، هناك عودة إلى ما قبل نقطة الصفر: غموض وجمود في مسار التفاهم السوري ــــ السعودي، وانحياز مصري إلى أولوية التفاهم مع اليمين الإسرائيلي، وأخيراً انقلاب حتى النظام العراقي المخلخل والضعيف على سوريا، ومقارعتها بالوعيد.
السوريون المهددون بالقرارات الظنية من بيروت وبغداد معاً، ليسوا في وضع انكفاء أو ضعف. فالعودة إلى البوشية لا تعني أن موازين القوى قد عادت إلى ما كانت عليه عام 2003. فمذاك، هزمت الولايات المتحدة في العراق، وهزمت إسرائيل مرتين في لبنان وغزة، وجهود «إطلاق عملية السلام» سوف تنكسر، بلا نتيجة ذات قيمة، فليس لدى اليمين الإسرائيلي استعداد أو مصلحة في تقديم تنازلات جدية، وليس لدى الشعوب العربية استعداد لسلام مع إسرائيل لا يلبي الشروط الواقعية لحل المشكلات القائمة بالفعل.
حسناً، ما عشناه في إجازة الحلم الأوبامي الجميل، ستحل محله اليقظة على حقائق الصراع. وهي يقظة ستظل تأخذ بالاعتبار، بالطبع، الميل الأيديولوجي والنفسي لرئيس أميركي من يسار الوسط، وهو ميل سوف يخفّض حدة المواجهات، ولكن ليس المواجهات نفسها.
في غضون ثمانية أشهر (لا في فترتين رئاسيتين من ثماني سنوات) استُهلك باراك أوباما. فجأة، خفت سطوع النجم، وتباطأت حركته. ربما لا يزال الرئيس الشاب يعمل 18 ساعة يومياً، لكنه يبدو اليوم شائخاً وبلا عمل.
وما يمكن المرء أن يراه بوضوح هو أن الهجوم المنظم على ظاهرة أوباما يحقق النجاح:
1 ــــ شعبيته في الداخل تراجعت نحو عشر نقاط دفعة واحدة، فلم يعد، إذاً، موضع إجماع أكثري من دونه لن يستطيع انتزاع تسوية اجتماعية مع أساطين الرأسمالية الأميركية التي تلتزم موقف الديناصور وترفض التكيّف، وهي اكتفت من أوباما بتلافي مرحلي للانفجار الشعبي ضد النظام. 2 ــــ تأثيره الشخصي في السياسة الدولية، الذي بدا لوهلة سحرياً، يتلاشى، لتبقى الحقائق الصلبة للدبلوماسية المؤسسية المتجذرة في المؤسسة الأميركية. وهي ترى أنها حققت، باستخدام النجم الأسود في البيت الأبيض، أكبر وأسرع وأنجح حملة علاقات عامة يمكن تصوّرها لتحسين صورة الولايات المتحدة التي بلغت في آخر أيام الرئيس جورج بوش درك الصفع بالأحذية.
ومع ذلك، كان بإمكان أوباما أن يحقق إنجازات جدية في فترة شهر العسل، لكنه تردد وساوم وأحجم، معتقداً أن لديه ثماني سنوات لا ثمانية أشهر. ولكي نفهم ما الذي حدث، سوف نسترجع مشهد صعود أوباما أواخر 2008: الأزمة المالية ــــ الاقتصادية تكاد تغرق الرأسمالية الأميركية والعالمية، تترافق مع أزمة خسارة واشنطن لـ«الحرب على الإرهاب»، وتخلخل نظام السيطرة الأميركي على العالم.
هنا ظهر أوباما، السياسي الشاب من أصل أفريقي ومسلم، الخطيب الموهوب، ابن الطبقة الوسطى ونموذج تحقق الحلم الأميركي… وبدأ العمل الكثيف على تصنيع النجم. كان لا بد له أن يفوز في الانتخابات الرئاسية فوزاً ساحقاً، ويهبط من غيمة سماوية، منقذاً للفئات الشعبية الأميركية، وجالب السلام للبشرية جمعاء.
في تلك الذروة، كان أوباما مستفيداً من حاجة المؤسسة الماسة لدوره، يستطيع انتزاع مكاسب حقيقية تحوّله من نجم استعراضي إلى زعيم تاريخي: تخصيص الأموال لإنقاذ الأسر بدلاً من تخصيصها لإنقاذ البنوك، استغلال الفرصة للشروع فوراً ببناء نواة صلبة لقطاع عام يطلق مشاريع الطاقة البديلة وصناعاتها، والتدخّل الدولتي لإعادة توزيع الثروة. وهي إجراءات حيوية لتجديد، وليس إضعاف الرأسمالية الأميركية. وفي الخارج: الشراكة مع الصين الصاعدة لا مع فرنسا الآفلة، والتفاهم الندّي مع روسيا في ملفات أفغانستان وإيران وأوروبا الشرقية، ثم عقد صفقة مع سوريا من أجل إعادة تنظيم عقلاني للقوى في الشرق الأوسط. وهذه كلها ليست هدايا لكنها ضرورات أميركية، أي أنها السياسات التي تكفل تجديد دور عالمي فعال للولايات المتحدة يؤمّن مناخاً ومعطيات للتجديد الداخلي.
حزمة من الفرص فاتت أوباما، وخلّفته وراءها. اليمين الأميركي استرد أنفاسه الآن: انخفضت حدة الأزمات، وأصبح ممكناً التمسك اليوم، بغض النظر عما سيحدث غداً، بالنهج الفائت. فالرأسمالية الأميركية محافظة لدرجة الانتحار. وهي غير مهيأة، أيديولوجياً وسيكولوجياً، لتقديم تنازلات حقيقية خارج نطاق الميديا… إلا تحت النار.
* كاتب وصحافي أردني