إلى يساريّ لبنانيّ: يألفونك فانفر!

*
أيها العزيز… حسناً، سوف أذكر اسمك يا أمين قمورية. فهذه ليست رسالة شخصيّة ــــ وإن كان حضورك الشخصي اللامع والحزين هو الذي ألهمني كتابتها ــــ وسوف أبدأ من الأخير: إن إلحاحي عليك للعودة فوراً إلى الانخراط في تأسيس أفق جديد لليسار العربي لا يعود فقط إلى ما بيننا من محبة، بل إلى ما تملكه من رأسمال رمزي هو ليس ملكك لتبدّده في اللاجدوى أو اليأس أو العيش في الماضي أو الخوف من فشل التجربة الثالثة. فلتفشل! ذلك أن واجبنا ــــ ومجدنا ــــ هو المحاولة. ومَن هم أولئك الذين يهمّشون اليسار ويجلسون على المنصّة؟ نحن أقوى منهم، وأذكى، وأجدر! نحن لدينا الأفق الممكن للنهضة الروحية لمجتمعنا وناسنا! لدينا الإخلاص والأيادي البيض والعقل البارد والقلب الحار!
ليست سذاجة أن نتذكّر معاً البديهيات: «أنت لا تنقذ نفسك إلا بالسعي لإنقاذ الآخرين» (أرنستو تشي غيفارا)، يعني نحن نناضل من أجل أنفسنا أولاً، من أجل أن يكون لحياتنا معنى، من أجل أن نكون قادرين على الحب وعلى الاستمتاع بمباهج الحياة!
وما دمت، أيها العزيز، تملك الرأسمال الرمزي، فليس من حقّك أن تحيل المهمة إلى الآخرين. فالرأسمال الرمزي الخاص بك هو ملكية اجتماعية، عمد ويعمد الكثيرون إلى «خصخصتها» بمكسب أو بمنصب… لكن ليس أنت! أنت ليس أمامك هذا الخيار، لأنك، في داخلك، صلب وعصيّ، مثلما أنت إنسان وشفاف.
الرأسمال الرمزي أيها العزيز، هو أثمن ما يملكه إنسان. أعني ذلك الرصيد من الصدقية والاحترام الذاتي والأنفة والمشاعر المتّقدة ضدّ التعصّب والظلم والخطأ والفساد، والإحساس التلقائي بما هو عادل، وحب الوطن والناس والحقيقة، وما ينجم عن ذلك من الحضور الخاص لدى أصحاب الضمائر.
الرأسمال الرمزي لا نصنعه في صفقة، ولا يمكن بناؤه بضربة معلّم، ولا ينشأ بقرار حكومي أو حزبي أو طائفي أو عشائري، ولا يفرضه منصب، ولا يمكن تحصيله في برنامج زمني. إنّه نسيج حيّ من حياة كاملة من المواقف والتضحيات والاصطفاف في الخندق الصحيح والولاء للشعب والآلام والثبات والكبوات والنهوض، ونظافة اليد والضمير، والإنسانية والغيرية.
هذا لا يعني أنّ المناضل ممنوع من المناورة في مسارات الحياة السياسية. كلا. فالمناضل والمثقّف ليسا من شيوخ الصوفية. لكن ينبغي أن يظلّ الرأسمال الرمزي عندهما خطّاً أحمر، لا تتجاوزه المناورات ولا الضرورات السياسية، ولا تمسّه بالطبع شهوات المكاسب والمناصب. فماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه؟ المناضل والمثقف، في زمن الانحسار الجماهيري، لديهما الدور الأكبر: أن يؤدّيا دور الضمير، ويعبّرا عن البرامج المطابقة للحاجات الشعبية، ويقدّما للآخرين الأنموذج. هذا الدور له من الفعالية أكثر ممّا للمقعد البرلماني أو المنصب الوزاري أو النجومية من فعالية: البريق الخاطف يذهب سريعاً وزبداً… لكن اتّقاد جمرة الروح تشع على مر السنين.
ليست سلبية. فإذا كان أمام المناضل والمثقف فرصة حقيقية مشرّفة وجدّية للمشاركة، فليس أمامه سوى أن يشارك. لكن، حينما يكون ثمن المشاركة هو التخلّي عن الرأسمال الرمزي، والاندراج في اللعبة، فهي خسارة كبرى لا تعوَّض أبداً. خسارة ذاتية وخسارة اجتماعية. فالمجتمع ينتج مئات المهنيّين والإداريّين ومشاريع النواب والوزراء والمديرين، سنة إثر سنة، ولكنه لا ينتج المثقفين العضويين والمناضلين إلا في جيل كامل، بشروط صعبة ومعقَّدة. ولذلك، عندما يخسر مناضل أو مثقف نفسه، فإنني أعلن الحداد.
أحياناً، بالطبع، قد تغرينا المواضعات الاجتماعية، أو تلزّنا إلى زوايا ضيقة الاصطفافات الطائفية أو العشائرية أو السياسية المرحلية، أو نهرب منها إلى استعلاء صحيح، إذا كان منطلقاً من موقف ثالث، يساري إنساني جذري. علينا هنا أيضاً أن نقاوم بالضراوة نفسها: نحن نريد تغيير المجتمع لا الخضوع لمواضعاته. ونحن خطّ ثالث، ولسنا مجرّد عصافير جميلة حسّاسة للفيروسات القاتلة المنتشرة في السياسة اليومية اللاأخلاقية.
في حالات أخرى، يمكن أن نقع في إغراء النزعة الوجودية للعيش البطيء الممتع. سنكتشف أنه بطيء وليس ممتعاً. ونصل إلى المرض الوجودي: «الآخرون ــــ حتى النساء ــــ هم الجحيم»!
كل تلك الخيارات، من خصخصة الرأسمال الرمزي، إلى الاصطفاف في الزوايا الماضوية الضيّقة، إلى الهروب إلى العزلة، إلى الخيار الوجودي، كلّها خيارات لن تنقذ أرواحنا الحرة التي زرع فيها التاريخ جمراته.
هل هناك مبرّر لتلك الخيارات؟ المبرّر معروف: اختلال موازين القوى، فشل التجارب النضالية، الخيانات، ضيق الأفق والتردد والفردانية والانتهازية عند مَن اعتبرناهم، ذات مرة، قادة مقدّسين.
دعنا نرى:
أولاً، موازين القوى بين حركات الشعوب والأمم والإمبراطورية الأميركية لم تعد مثلما كانت مطلع التسعينيات. الآن، هناك جديد نوعي في تاريخ الصراع الاجتماعي والسياسي الكوني يؤكّد، على الأقل، أنّ الصراع هو الثابت، وأنّ موازين القوى متغيّرة. يمكننا الآن مرّة أخرى أن نناضل: ولدينا ما نقوله ونفعله في مواجهة الأعداء والحلفاء.
لكن الأمر الأساسي هو في استعادة نظرتنا الأصلية للسياسة. فهي عندنا ليست فن الممكن، بل فنّ تطبيق الأخلاق في الحياة العامة. إنّ مداخلتنا هي بالأساس مداخلة أخلاقية مسلَّحة بالفكر النقدي والتنظيم. نحن لا نعترض فقط على الإمبريالية، ولكننا نعترض على الحرب والسيطرة والوصاية، بكل أشكالها وألوانها. ونحن لا نعترض على العنصرية الصهيونية فقط، بل نعترض على كل عنصرية وطنية أو دينية أو طائفية أو مذهبية. ونحن لا نعترض على الرأسمالية فقط، ولكننا نعترض على نمط الحياة الرأسمالي الاستهلاكي المعادي للروح وإنسانية الإنسان. نعم، لسنا مادّيّين ــــ كما يُقال عنّا ــــ إلّا في أدوات التحليل الاجتماعي، ولكننا أهل المثالية وورثة حركاتها وأنبيائها وقيمها. نحن ملح الأرض، فإذا فسد الملح…
أنا أعرف يا عزيزي أنّك تكدح لشرفك من أجل الوفاء بالتزاماتك. ولعلّ هذا هو الذي يحافظ على جمرة روحك. وهو الذي يعصمك، وسيعصمك من أن تقع فيما وقع فيه «قادتنا» الآفلون من أخطاء وخطايا. نحن الآن القادة. فلنقدّم الأنموذج الذي نحلم به للقيادة: إخلاص من دون حدود للفكرة، وثقة من دون حدود بالنفس، وإصرار من دون حدود على النقد، نقد الحليف ونقد الرفيق ونقد الذات.
كأننا أنبياء؟ نعم! «أنبياء بلا وحي»، مثلما يقول رفيقنا عبد الأمير الركابي. بل أنبياء من دون عون من إله. وهذا هو قدرنا وعلوّنا، نواجه ضرورة التاريخ منفردين: قليل في عين اليوم، كثير في عين التاريخ.
جئتك أيها العزيز من الأردن حيث تجاوزنا للتوّ الجدل الفقهي العديم الجدوى مع الأنماط القديمة والمهزومة والمتصالحة من يساريّين فقدوا البوصلة، وانطفأت في دواخلهم جمرة الروح… واتجهنا، مثل بولس الرسول، إلى «الوثنيين». دهشنا حين اكتشفنا أن أولئك كانوا ينتظرون، في لهفة، كلمة اليسار. أنا على يقين من أن «الوثنيّين» ينتظرون تلك الكلمة في لبنان أيضاً، على أن تكون تلك الكلمة متحرّرة من يوميات سياسة الطوائف والمحاصصة والتعصّب والولاءات الإقليمية والدولية. وما شأننا برئاسة الجمهورية وبالحكومة والمناصب والمكاسب. نحن دعاة اللا ــــ دولة، دعاة المساواة والإخاء، دعاة الديموقراطية الاجتماعية التي تنظم الإدارة، صعوداً من الحي والمنشأة والبلدة والمدينة، على الوطن المترامي الأطراف، من شواطئ لبنان إلى بادية الأردن، ومن زاخو إلى البصرة، ومن اللاذقية إلى حلب وحوران.
نحن في موقع ثالث، خارج دائرة الطباشير الطائفية: لا مع 14 آذار ولا مع 8 آذار. نحن ضد ما يجمعهما، بالأساس،من توافق ضمني على تقديس الملكية الخاصة والاتفاق على النهج الليبرالي الرأسمالي في الاقتصاد والسياسة والثقافة، سواء كان سافراً أو «محجّباً»! نحن ضدّ أعمال الخير، وضدّ تمويل البنى الاجتماعية من خارجها، لأن المآل الوحيد للتمويل الخارجي، سواء أكان «حراماً» أم «حلالاً» هو العبودية.
نحن، بالطبع، مع المقاومة، كفكرة وكممارسة، على أن تكون وطنية جامعة لا جزئية، في لبنان كما في العراق كما في فلسطين. والمقاومة بالنسبة إلينا إنسانية، هدفها صدّ العدوان والاحتلالات وتفكيك نظام السيطرة الأميركي والكيان الصهيوني، لكننا لسنا في خندق العداء للغرب أو لليهود.
نحن نمضي نحو يسار اجتماعي يتخطّى السياسة اليومية وزواريبها، ويتخطى الحدود، ويبشر بالزمان الجديد والأخلاق الجديدة لحياة يحكمها الضمير لا المال ولا السلطة، وتبهجها أنوار الروح، لا شره الاستهلاك المضاد لبقاء البشرية:
إنْ يملأ الحقّ قلبكَ تندلعُ النارُ إنْ تتنفّسْ
ولسانُ الخيانة يخرسْ من يملك نار الكلمات، يملك الآتي
* كاتب وصحافي أردني

Posted in Uncategorized.