نيسان/ أيار 2001
المقتبس
ناهض حتّر
سياسة أولا سياسة؟ التقدم الاجتماعي أو تأييد الوضع القائم؟ علينا في النهاية أن نختار. هذه هي أطروحة ميخائيل إيركه الذي أتفق تماماً مع استنتاجه الحاسم القائل إنه “إما أن يكون من الصعب تحسين الوضع في العالم بالوسائل السياسية (وهو الخيار المحافظ) أو أن تستطيع الحكومات، لا بل يتوجب عليها، أن تكرس جهدها لرعاية احتياجات الفئات المجحف بحقها (وهو خيار الديمقراطية الاجتماعية) ولا طريق ثالث بين هذين الخيارين”. لقد قدم السيد إيركه في ورقته “الطريق الثالث والديمقراطية الاجتماعية الأوربية/ برنامج سياسي للمجتمع المعلوماتي”-بالرغم من رداءة النص العربي-تحليلاً خصباً لأفكار “المراجعة الثانية” التي تنخرط فيها أحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية لتتلاءم مع متطلبات “العولمة”، وقدم حججاً مقنعة تظهر أن هذه الأحزاب التي قبلت، في “المراجعة الأولى” التي تمت إبان العقد الثاني من القرن العشرين، أساسيات النظام الرأسمالي مع التمسك بالنضال لتحسين شروط حياة الطبقة العاملة وسائر المجحَف بحقهم؛ معتبرة نفسها، في الآن نفسه، حصناً لليبرالية الفكرية والأخلاقية والعلمانية، تنتقل اليوم إلى القبول بالإجحاف والاضطهاد اللاحق بالفئات الشعبية، مقترحة على هذه الفئات، الاقتراح الرجعي المعروف: القبول بواقعها الذي يزداد سوءاً والتعزي بالروابط القديمة الدينية والعائلية والقوموية، ودعوتها لتعميق مشاركتها في ديمقراطية منزوعة الفتيل، لأنها ديمقراطية تقوم على إلغاء السياسة باعتبارها حقلاً للصراع الاجتماعي والأيديولوجي أو للحوار حول البدائل الممكنة للتقدم الاجتماعي/العدالة الاجتماعية، وتقترح، بالمقابل، التنافس بين المجموعات على أساس أيها أكفأ في خدمة مصالح المالكين والمؤهلين.
الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية، في صورتها الجديدة المتمثلة في نهج الطريق الثالث، لم تعد بالتالي، تستحق اسمها. إن برنامجها السياسي، في النهاية، هو اقتراح لتقديم خدماتها السياسية للنظام الرأسمالي في زمن العولمة. يشير إيركه، ولكنه لا يوضح كفاية، إلى الطابع الملتبس لاصطلاح “العولمة”، فالرأسمالية الحديثة كانت، على الدوام، تتضمن اتجاهاً بنيوياً للتوسع العالمي. وكان القرن التاسع عشر الذي انتهى بقيام ثورة أكتوبر في روسيا عام ١٩١٧، مرحلة ممتدة من التوسع الرأسمالي على الصعيد العالمي. وقد استخدمت الرأسمالية، لتحقيق برنامجها العولمي، آنذاك، كل الوسائل الممكنة: السلاح والاستعمار/ الاتفاقات التجارية، والتجار، والشركات العالمية. وهو اتجاه انكسر في القرن العشرين القصير (الممتد بين ١٩١٧ و١٩٩١) حين خرجت روسيا ومن ثم شرق أوروبا، فالصين وبلدان آسيوية وإفريقية وأميركية لاتينية، من نطاق العمولة الرأسمالية، لتبني، بالمقابل، معسكر الأممية. في تلك الحقبة، نشأ ميزان قوى اجتماعي على الصعيد العالمي، أتاح حدوث صفقة الاشتراكية-الديمقراطية في أوروبا، الكينزية في الولايات المتحدة الأميركية، ومضمون هذه الصفقة هو: قبول الأحزاب العمالية بالنظام الرأسمالي، وقبول الرأسماليين بتقديم جزء من أرباحهم لتمويل دولة التكافل الاجتماعي. هكذا نشأت الجبهة الغربية ضد الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية وحركة التحرر الوطني العالمية، وعندما سقط هذا المعسكر، سقط معه ميزان القوى الاجتماعية العالمي، وأصبح بإمكان الرأسمالية أن تتنصل من تنازلاتها الاجتماعية السابقة عودة إلى المعايير الرأسمالية الأصولية: الأولوية المطلقة لمعايير السوق، أي المعايير الاقتصادية المحررة من كل قيد اجتماعي. ولكن، بما أنه حدثت في الأثناء، ثورة تقنية هائلة في كل المجالات، وخصوصاً المعلومات والاتصالات، أعطى المالكون للخبراء حيزاً في التحالف الطبقي الجديد. المالكون والخبراء ضد غير المالكين وغير الخبراء. هنا، بادرت أحزاب الديمقراطية الاجتماعية الغربية إلى عرض خدماتها على التحالف الطبقي الجديد تحت اسم: الطريق الثالث. على الصعيد العالمي، استعادت الرأسمالية كل طاقات استراتيجية التوسع غير المقيد بالحوافز وكتل المقاومة. وبما أن ثورة المعلوماتية والاتصالات تعطي وسائل غير مسبوقة للهيمنة الرأسمالية على عالم غدا قرية إلكترونية، فقد أتيح للرأسمالية أن تقدم توسعها الإمبريالي عالمياً تحت قناع أيديولوجي: العولمة. ولكنها “عولمة” باتجاه واحد. فالرساميل والخبرات والسلع والمعلومات تنتقل من المراكز الإمبريالية باتجاه العالم كله، و”توحده” تحت ظلها ولمصلحتها وتشكله في الصورة التي تلائمها، وترد لدى أدنى إشارة تمرد باستخدام تفوقها التقاني العسكري وتحكمها بالمنظمات الدولية، لتدمير المتمردين. وبالمقابل، تنتقل الفوائض المالية والخامات والعمل الرخيص ” أو نتائجه” و”العقول” من العالم باتجاه المراكز الإمبريالية. أليس في هذا الوضع استعادة للعهود الاستعمارية؟
كيف يستقبل العرب “العولمة”؟ في إعلان ترويجي للجمهورية التونسية، يقول النص: “إن تونس اختارت العولمة” ولا نريد أن نركز عما إذا كان اختيار العولمة، بالنسبة لتونس، هو خيارها حقاً ولكننا نشير إلى أن الادعاء الأيديولوجي الإمبريالي حول حيادية “العولمة” مقبول إلى درجة أنه يغدو مادة دعائية للتباهي على الطريقة الشرقية. وبالمقابل، هناك قوى ترفض العولمة، على الطريقة نفسها أي بالامتثال إلى صورتها الأيديولوجية الثقافية. ففي مواجهة التوسع الإمبريالي الثاني المسمى بالعولمة، نلاحظ أن العرب انقسموا إلى خيارين:
أ- الخيار الأول، هو الخيار الكمبرادوري الخاضع للتوسع الرأسمالي/ دون أي شرط، ويطمح إلى دور وكيل تجاري وأيديولوجي وسياسي لهذا التوسع.
ب- الخيار الثاني، وهو الخيار السلفي المعادي للوجه الثقافي السياسي للتوسع الرأسمالي دون القدرة على اقتراح استراتيجية تنقض أساسياته الاقتصادية. وبين هذين الخيارين لا توجد مساحة لليسار العربي الذي انقسم إلى شراذم، بعضها يصطف على الأنظمة الكمبرادورية تحت يافطة الدفاع عن الذات والثقافة الوطنية وتجميع القوى للنضال ضد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. ولكنه في القضية الأساسية التي تبرر وجوده، أي في حقل الخيارات الاقتصادية الاجتماعية الكبرى، فليس لديه ما يقترحه، أي ليس لديه ما يجعل منه قوة مستقلة.
في مرحلة احتدام الصراع بين المعسكرين، الرأسمالي والمناهض للرأسمالية، انشدت القوى الاجتماعية العربية المعادية للتوسع الرأسمالي، إلى المواقع اليسارية على اختلاف أشكالها وتعبيراتها. ومع سقوط البديل اليساري على المستوى العالمي، سقط هذا الخيار؛ ووجدت القوى الاجتماعية المتضررة من التوسع الرأسمالي نفسها أمام الفراغ، فاضطرت إلى الهجرة إلى الماضي، وكانت القوى السلفية بانتظارها، حيث ولدت ظاهرة “الصحوة الدينية”. ومن وجهة نظر الإمبريالية، فإن الخيار السلفي، طالما كان ملتزماً بشروط اللعبة الأمنية، هو خيار “ملائم” من حيث أنه يؤمن الرضا الذاتي لجمهور الفقراء المسحوقين، ويشغل آليات التكافل القديمة لإدامة مستوى متدنٍ من العيش لفئات رُوّضَت للقبول بالإحسان، بينما يوجه غضب الشباب من الفئات المهمشة نحو ملابس النساء والمغامرات الإبداعية للكتاب والفنانين وشؤون ثقافوية أخرى، يتخللها أحياناً، مظاهرات ترتفع فيها الأصوات التي تطالب بموت أميركا وإسرائيل دون أن يكون لديها القدرة على بناء الوسائل اللازمة لإنجاز هذا الهدف.
الأنظمة الكمبرادورية تقترح بالمقابل، برنامجاً يقوم على الخضوع غير المشروع تحت يافطات: التحديث، الديمقراطية، الاندماج في السوق العالمية، وهذا البرنامج، بالطبع، يوفر للفئات الكمبرادورية الحاكمة، إدامة حكمها، فهي على الأقل تقدم اقتراحاً لإدارة الاقتصاد الوطني ونظرة إلى المستقبل وخطاباً يبدو حداثياً، وإلى ذلك، فإن الوظيفة الكمبرادورية السياسية أو التجارية، تؤمن للفئات الحاكمة هذه، دخولاً عالية جداً ومستوى معيشياً موازياً لمستويات العيش الغربية.
غير أن البرنامج الكمبرادوري يقترح في النهاية طريقاً مسدوداً أمام المجتمع المحلي، فغالباً ما تكون هناك معوقات اقتصادية أو سياسية أو ثقافية، تعيق الاندماج المقترح في السوق العالمية، إلا أنه حتى في حالة نجاح “الاندماج” واستطاعة البلد المعني، القفز من منطقة التهميش والانهيار، فإن النتيجة هي إفقار وتهميش الأغلبية الشعبية في الداخل؛ ذلك أن الاندماج الكمبرادوري لا يقوم على المشاركة، ولا يتضمن تبادلاً مفتوحاً، وانما يقوم علناً على إعادة هيكلة الاقتصاد المحلي بما يلبي متطلبات التوسع الرأسمالي: خدمة مديونية غير قابلة للسداد، مناطق صناعية مؤهلة لاستغلال العمل الرخيص، مناطق حرة لتسهيل التوسع الرأسمالي في الإقليم المعني، سياسات مالية ونقدية همها الوحيد درء التضخم بأي ثمن-حتى لو كان استفحال البطالة والفقر والجوع-ومن ثم الانقلاب إلى سياسات تضخمية لتحويل الاستثمارات الكمبرادورية.
بين الخيار الكمبرادوري الذي عنوانه: الاقتصاد (وتحويل المناقشة الاقتصادية إلى مناقشة فنية كهنوتية في التفاصيل ممنوعة لغير الخبراء/الكهنة) والخيار السلفي الذي عنوانه: الثقافة (وتحويل المناقشة الثقافية إلى كفر وخيانة) لا بد من خيار بديل عنوانه: السياسة. ويقترح برنامجاً قادراً على استيعاب القوى الاجتماعية المناهضة للتوسع الرأسمالي في فعل موجه ضد الكمبرادورية والسلفية في آن واحد، باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، هي عملية التكيف مع التوسع الرأسمالي. وهذا هو باعتقادي الخيار اليساري: الدفاع عن مصالح المجحف بحقهم، في الحقل الاقتصادي –الاجتماعي…، لا عن نزوعاتهم الثقافوية السلفية.
ويبدأ الخيار اليساري من مبدأ رئيسي: عدم القبول بالتابوهات. إدارة الاقتصاد ليست شأنا فنياً بل هي بالدرجة الأولى شأن اجتماعي-سياسي؛ والثقافة ليست شأناً دينياً، بل هي بالدرجة الأولى شأن دنيوي.
سنقترح إذن، برنامجاً سياسياً لليسار العربي يقوم على نقض الهيمنة الكمبرادورية في المجال الاقتصادي من جهة، ونقض الهيمنة السلفية في المجال الثقافي من جهة أخرى؛ وفتح الطريق أمام الفئات الشعبية للنضال في سبيل العدالة الاجتماعية والتقدم.
***
المثال الأردني
سأقدم فيما يلي نبذة عن آثار تحريم السياسة في المثال الأردني الأنموذجي لجهة كون الحكم يمارس ويعلن برنامجاً كمبرادورياً صافياً في مواجهة “معارضة” ثقافوية يسيطر عليها السلفيون “المعتدلون” الذين يتركون ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فلا يقتربون من الشأن الاقتصادي؛ بينما تعطيهم السلطات الكمبرادورية، كل مساحة الثقافة للتحكم بها. ويلتقي الطرفان في التغييب الشامل للفعل السياسي، فكراً وممارسة، عند نقاط عدة منها ما يسمى “بالوحدة الوطنية”، حيث يتم نسج تواطؤ مريب لإخفاء حقيقة التوسع الإسرائيلي على حساب الأردن، في سياق تحويل البلد إلى وطن بديل لضحايا الصهيونية، الفلسطينيين.
ويشعر المثقفون الأردنيون الفاعلون في الحقل العام، بالتناقض الحاد بين الأسئلة التي يطرحها على وعيهم وفعاليتهم، السياق الوطني الواقعي الذي يتحددون -شاءوا أم أبوا -منه، وبين عاداتهم الأيديولوجية التقليدية المتحالفة “الإسلامية أو القومية أو اليسارية” وتنظيماتهم وممارساتهم السياسية المعتادة. وهذا التناقض الحادّ بين الوعي ومحدداته وتمظهراته وخطاباته، وبين الواقع السياسي الفعلي، يشمل المثقف الأردني الملتزم ويلجئه إلى اليأس وقبول التهميش، والبحث، عندما يكون ذلك ممكناً، عن ملاذ شخصي سامٍ أو غير سامِ، لا فرق. ولدى المثقف الأردني الملتزم إجابات جاهزة على أسئلة غير مطروحة، بينما تلح عليه أسئلة أخرى بلا إجابات، فينتهي إلى ارتمائه “خارج اللعبة” أو يغدو أسيراً لها، وهو في الحالين، صفر على الشمال.
والأسئلة الوطنية الفعلية تدور حول ثلاث مجموعات من القضايا المعلقة هي:
– المجموعة الأولى، وترتبط بقضايا الاقتصاد الوطني. وقد وقع المثقفون الأردنيون في فخ القبول الجماعي بأن إدارة الاقتصاد الوطني لها طابع فني مطلق -مثل المعالجة الطبية بحيث استنكفوا طوعاً، عن إبداء الرأي في الشأن الاقتصادي. واثر فورة نقاش اقتصادي في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، توصل مديرو الاقتصاد الوطني إلى إقناع الرأي العام بأن سياساتهم القائمة على الامتثال الكامل لمطالب صندوق النقد الدولي -المتواطئة مع المصالح المحلية للأثرياء-ليست موضع نقاش. إن السؤال الرئيسي -وهو سؤال سياسي بامتياز -عما إذا كانت إدارة الاقتصاد الوطني القائمة، هي المثلى أم لا يغيب كلياً، بل ان كل مقاربة اجتماعية لهذه الإدارة ومنطلقاتها وآلياتها محرمة مسبقاً، طالما أن السياسات الاقتصادية تحولت إلى ميثولوجية مقدسة وطقوس يمارسها كهنة أخصائيون، هم وحدهم القادرون على فك “طلاسمها”.
– المجموعة الثانية من الأسئلة الوطنية هي المرتبطة بالهوية الوطنية للدولة الأردنية، وكينونتها وعصبيتها. وكل مناقشة لهذه القضايا التأسيسية، ممنوعة، بحجة الحفاظ على”الوحدة الوطنية” القائمة على الوجود (المؤقت) للاجئين والنازحين الفلسطينيين في الأردن.
– المجموعة الثالثة، من الأسئلة الوطنية ترتبط بقضايا الإصلاح السياسي التي تغدو، بالنظر إلى منع الحوار في مجموعتي القضايا السابقتين، ليست ذات أهمية. فالإصلاح السياسي-وإن يكن مطلوباً في ذاته، فإن هدفه الجوهري هو تمكين النخب السياسية والثقافية الفاعلة والجمهور العريض من المشاركة الحاسمة في القرار الوطني. ولكن ما جدوى هذه المشاركة، بالأساس، إذا كان من المستحيل القيام بأي فعل إيجابي إزاء القضايا الاقتصادية والوطنية.
إن الإصلاح السياسي المعني بأشكال ومسارات الممارسة السياسة، يغدو نافلاً، إذا كانت السياسة ممنوعة إلى إشعار آخر، ما جدوى إلحاح المثقفين على إصلاح النظام الانتخابي مثلاً إذا كان شاغل المقعد النيابي سواء أكان عشائرياً أم زعيماً وطنياً، عاجزاً عن مقاربة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والوطنية الأكثر أساسية إذا كان المبدأ الثقافي الأساسي ينطلق من الإيمان بأن الانسان هو الذي يصنع تاريخه، ما يجعل من الممارسة السياسية ضرورة، فإن المثقف الذي يتخلى عن حقه في مناقشة الشؤون العامة، بوصفها “محرمات”، يتخلى، بالأساس عن وجوده الإنساني. وإذا كانت السياسة، إذن، ممكنة، والانسحاب منها هو انسحاب من المسؤولية الاجتماعية والوطنية، دعنا، إذن نُحدد عدداً عن المبادئ التي لا غنى عنها من أجل استنهاض حوار وطني جذري ينتقل بنا من حالة اليأس والجمود والضياع إلى وضع الوعي والمبادرة التاريخية.
هوية الدولة: فلا دولة دون هوية وطنية مؤطرة في سياق تاريخي واقعي. فهل نجرؤ على الخروج من حالة شقاء الوعي الوطني المقسم بين عيشنا السياسي الفعلي واستيهاماتنا القوموية إلى حالة الوعي “الدنيوي” المنسجم القائم على الاعتراف غير الملتبس بأن الأردن هو “وطن نهائي” للأردنيين. وهذا لا يمس، حتماً، بالطابع العربي –الإسلامي للهوية الأردنية، ولكنه يُحددها في سياق سياسي فعلي لا يعود مقبولاً معه العيش في وطن معلق على استيهامات أيدلوجية من أي نوع، ولا التطاول على الثوابت الوطنية بحجة أنها متغيرات أو منع الحوار حول المتغيرات بحجة أنها ثوابت.
***
الأردن وطن نهائي للأردنيين: يكتشفون ماضيه ويقرأون حاضره، ويرنون إلى مستقبله بوصفه تكويناً اجتماعياً –تاريخياً واقعياً، وحقيقة سياسية. هذا هو معنى “التأريخية” التي، بدونها، لا معنى لنشاط المثقف المناضل الذي لا يقبل الوقوف مشلولاً أمام “المحرمات” والأقدار! في سياق كهذا، سوف تظهر قضية اللاجئين والنازحين في الأردن مجردة من ظلالها الحساسة، بوصفها قضية سياسية “دنيوية”: اللاجئون والنازحون جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني. إن وطنهم النهائي هو فلسطين. على أنه من واجب الأردن أن يستضيف من لا يستطيع العودة منهم إلى وطنه حتى يستطيع، وعلى أن تكون لهم، في ظل السيادة الأردنية، حرية التعبير عن هويتهم الوطنية، وحرية النضال من أجل العودة.
– أولوية السياسة: والتكوين الوطني الذي اعترفنا بواقعيته للتو هو نفسه حقل صراعات اجتماعية. فهو إذن، حقل للنشاط السياسي بوصفه فعلاً اجتماعياً-وطنياً. وهكذا لا يعود الاقتصاد الوطني، والتربية والتعليم، والإدارة…إلخ حقولاً فنية للكهنة الأخصّائيين، بل حقولاً عامة لصراع المصالح والإرادات. إن لدينا أهدافاً وطنية تتمحور حول زيادة الإنتاجية وعدالة التوزيع في إطار نهضة تنموية واجتماعية سوف نناقش شروطها وآلياتها دون أطر مسبقة سواء كانت ناجمة عن “التزامات” إزاء صندوق النقد الدولي أم لا، أو ناجمة عن قناعات أيديولوجية مسبقة أم لا.
المبدأ الأساسي هنا أن إدارة الاقتصاد الوطني هي، بالدرجة الأولى، عملية سياسية؛ وهي، بالتالي، شأن يخص كل القوى الاجتماعية الفاعلة في اتخاذ القرار الاقتصادي-الاجتماعي-التربوي… ممكنة وخصبة.
– الاستقلال: والاستقلال عملية مستمرة، وليس فعلاً أُنجز ذات مرة وانتهى. إننا نواجه مسؤولية صنع الاستقلال دون توقف، بالسيطرة على العلاقات الخارجية وتوظيفها لخدمة النهوض التنموي الوطني لا العكس. الاستقلال لا يعني القطيعة، ولكنه يعني التحزب للمشروع الوطني، والذود عنه.
فالحوار يجري، إذن، حول إذا ما كانت السياسات الخارجية المتبعة تخدم المشروع الوطني أم لا. وهو حوار مفتوح، ليس فيه “محرمات” أو أقدار، بل مسؤوليات لا بد من اتساع دائرة القائمين بها بحيث تشمل أوسع القطاعات الشعبية.
إطلالة عربية على الطريق الثالث
Posted in Uncategorized.