أيّ نموذج للقوة الثالثة في الأردن؟

أظهرت التجربة المصرية، الحدود الكابحة لصلاحية الخطاب الليبرالي الانتخابي في البلدان العربية؛ ففي مصر، وهي أقدم ـ وأكبر ـ الدول الوطنية العربية، وأكثرها تجذرا وتماسكا واستقلالا، وأقلها تشققا في التكوين الديموغرافي و المرجعية الدينية والمذهبية والاتنية، اصطدمت صلاحية الشرعية الانتخابية بالانشقاق الثقافي العميق بين كتل اجتماعية ذات توجهات مدنية وعلمانية وبين كتل ذات توجهات دينية سياسية.
سعى الإخوان المسلمون لاستخدام الشرعية الانتخابية المحدودة التي حصلوا عليها في الانتخابات الرئاسية، لفرض نظام مركب من سيطرة تنظيم ‘الإخوان’ على مفاصل الدولة وهيئاتها، ومن هيمنة الإسلام السياسي على مجمل نواحي الحياة الدستورية والقانونية والاجتماعية والسياسية والثقافية في مصر. وهو ما أدى إلى اتحاد كل الكتل الاجتماعية والقوى المدنية والعلمانية في ‘جبهة انقاذ وطني’ واسعة ( تمثل، أقله، ثلثي المصريين). وهي تخوض الصراع، لا على سياسات وإجراءات فقط، وإنما على مستقبل مصر.

‘جبهة الإنقاذ الوطني’ هي جبهة علمانية، تنخرط فيها القوى المدنية،على رغم تعارض مناهجها الاقتصادية الاجتماعية، ضد مشروع الدولة الدينية؛ فالناصريون واليساريون والمناضلون في صفوف النقابات العمالية والاتحادات الفلاحية والطامحون إلى بناء اقتصاد عادل وديموقراطية اجتماعية، يصطفون إلى جانب الشباب الثوريين من الفئات الوسطى، ورجال القضاء والقانون والليبراليين الطامحين إلى نمط مدني للدولة وليبرالية سياسية وثقافية، وأوساط البرجوازية التقليدية ( علما بأن برجوازية البزنس النيوليبرالي انضمت إلى زعيمها الجديد، الملياردير الإخواني ، خيرت الشاطر) و أوساط المثقفين والفنانين والمشتغلين بالفنون والسياحة والمهن المرتبطة بهما، وكذلك، بطبيعة الحال، الكتلة القبطية.

ويدعي الإخوان المسلمون وحلفاؤهم أن القوى القومية واليسارية تحالفت مع ‘ الفلول’ المباركية. وهو ادعاء يخلو من الصدقية والنزاهة؛ فالفلول وصف غير دقيق وغير منصف للفئات الاجتماعية التي تشكل الدولة المصرية ـ وإن خضعت جزئيا أو كليا لنظام مبارك ـ علما بأن ‘الإخوان’ هم الذين تحالفوا مع الفلول الحقيقيين من الوزراء ورجال الأعمال، كما تظهره حكومتهم وجمعيتهم النافذة لرجال الأعمال.

لكننا، في النهاية، نواجه في مصر مستجدا فكريا وسياسيا، ينبغي التوقف عنده؛ فالقوى اليسارية والقومية والليبرالية وصلت إلى قطيعة شاملة مع الإسلام السياسي، وهي كونت جبهتها على أسس ثقافية بالدرجة الأولى، فالخيط الذي يربطها جميعا هو النهج المدني العلماني، وليس الاجتماعي أو القومي.

في تونس، حيث توجد علمانية راسخة ، يتخذ الصراع طابعا طبقيا صريحا، بين الحكومة الإسلامية ـ التي أعادت التحالف مع رجال الأعمال والشركات والمستثمرين الأجانب والخليجيين وشبكات النفوذ الاقتصادي ـ وبين قوة العمل التي تمثلها نقابة وطنية تاريخية وموحدة ومهيمنة هي ‘الاتحاد التونسي للشغل’ الذي غدا مظلة لأحزاب يسارية وقومية ـ يسارية صغيرة ولكنها حسنة التنظيم والفعالية. الشيء اللافت، هنا، أن الجبهة العمالية اليسارية هذه، تشكل الدينامو لتيار واسع مناهض للإسلاميين، يتشكل من المثقفين والقوى المدنية والحركة النسائية الشديدة القوة والتأثير بسبب تاريخية نظام المساواة البورقيبي بين الجنسين.

إلى أين ستتجه سفينة الصراع السياسي في بلدنا: أنحو النموذج المصري أم النموذج التونسي؟ لدينا، على المستوى الفكري، إجابتان على هذا السؤال، الأولى طرحها ليبراليون لبناء الطريق الثالث في البلاد على أساس أولوية الدولة المدنية العلمانية، والثانية، طرحها اللقاء اليساري لبناء جبهة وطنية شعبية، على أساس أولوية الصراع الاجتماعي. إلا أن كلا من الإجابتين لا تزالان في وضع جنيني؛ ذلك أن أقساما من اليساريين والقوميين والليبراليين، لا تزال عاجزة عن القطيعة مع ‘ الإخوان’، والنظر إلى ائتلافها الممكن، كقوة قيادية على مستوى المجتمع والدولة. ومن دون تشكّل هذه القوة، تحديدا، لن تكون هناك امكانية لتحقيق التحول الديموقراطي في الأردن، حيث البديل الإخواني ممنوع لأسباب ديموغرافية وجيوسياسية معا.

العرب اليوم

Posted in Uncategorized.