ناهض حتّر
«لدى وزارة الصحة- كما يقول أحد الأطباء العاملين فيها، محتجاً -150000 دينار لتسديد فاتورة المعالجة لمريض واحد في الخارج، لكن ليس لديها المال لارسالي في بعثة علمية».
يضع الطبيب، ههنا، يده على الجرح.. ويثير المشكلة الرئيسية في حقل الطبابة- كما في الحقول الأخرى- وهي مشكلة الأولويات. وهي مشكلة دائماً. و لكنها تتأزم عندما تكون الموارد محدودة، وتطرح عدة اسئلة.
انقاذ حياة انسان -مهما كلفت معالجته- أولوية بالطبع. لكن، علينا ألاّ ننسى ان قسماً لا يستهان به من موارد التأمين الصحي الحكومي -والتي يدفعها المؤمّنون- يذهب لتسديد فواتير معالجات ضخمة في الداخل والخارج، ومن دون تدفيق. فما هو أثر ذلك على مستوى الخدمات الصحية العامة؟ سؤال تحتاج الاجابة عليه الى مراجعة وتدقيق، لتحديد الأولويات.
والسؤال الثاني المطروح – على هذه الخلفية- هو الآتي: ما هي الحالات التي يتوجب، حتماً، علاجها في الخارج؟ ذلك أن التأمين الصحي الحكومي ينبغي له ان يستجيب للضرورة القصوى، وليس لرغبات المرضى النافذين، او ضعف ثقتهم بالطبابة المحلية. اعني أنه ليس من الحكمة أو العدالة ان نقتطع مبالغ ضخمة من اموال التأمين الصحي الحكومي لتسديد فواتير الرغبات او المخاوف او الخدمة الفندقية.
وبالنتيجة، لا بد أن تكون هنالك معايير محكمة مهنياً- لا سياسياً او اجتماعياً- للحالات التي لا أمل لها إلاّ بالعلاج خارج البلاد.
ثم نأتي الى السؤال الثالث المتعلق بالحسابات المستقبلية، على المديين المتوسط والبعيد، والتي ينبغي اجراؤها لمعرفة حجم الاستثمار المالي المطلوب في البعثات العلمية لأطباء القطاع العام، بالعلاقة مع الآتي: (1) تعزيز وزارة الصحة بالكوادر الطبية المؤهلة الملتزمة بالعمل في المستشفيات الحكومية في العاصمة وخارجها «2» تخفيض كلفة المعالجة لدى القطاع الخاص.. وفي الخارج «3» رفد الطبابة المحلية، في النهاية بأطباء من الفئات الاجتماعية الوطنية، وهو ما يمثل ضرورة للحفاظ على التقاليد الطبية الانسانية إزاء الاستثمارات الخاصة والتجارية.
هناك خشية – مدروسة – من ان الاردن سوف يشهد في العقد القادم نقصاً مطلقاً من الأطباء العامين – وأطباء الاختصاص – الجاهزين للعمل في الخدمات الطبية الحكومية، أو اولئك الملتزمين، اجتماعياً وسياسياً، بالتقاليد المهنية الانسانية، بما في ذلك العمل في المحافظات.
ان القسم الرئيسي من الكادر الطبي الاردني الفاعل – حالياً – يتكون من أطباء من اصول شعبية، درسوا على حساب بعثات حزبية (الدول الاشتراكية والعراق وسورية) أو حكومية او في الجامعة الاردنية عندما كانت الدراسة فيها شبه مجانية. ولقد تغير كل ذلك الآن، وغدت كلفة دراسة وتأهيل طبيب واحد تعادل ثروة. وهو ما يهدد بتغيير المحتوى الاجتماعي للجسم الطبي، لقد اصبحت دراسة الطب (استثماراً) من الصعب تبديده في الوظيفة الحكومية.
الا تستلزم هذه اللوحة المستقبلية السوداء، وقفة مراجعة والتعاضد بين وزارة الصحة ونقابة الأطباء ووزارة التعليم العالي، للبحث في خطة وتخصيص الموارد اللازمة لابتعاث الاعداد المطلوبة من الأطباء العامين وأطباء الاختصاص؟.
المحور الأساسي في العملية الصحية كلها هو الكادر الطبي، لا البنايات ولا الاجهزة ولا الخدمات الفندقية. وهو ما يدعونا، مرة اخرى، الى المناداة بوقف الهدر الحاصل والهدر القادم – المتمثل في الاتفاقية التي تنوي وزارة الصحة توقيعها مع جمعية اصحاب المستشفيات الخاصة – وتوجيه الموارد (أ) على المدى القصير لتحسين مستوى الخدمة الطبية في المستشفيات الحكومية عن طريق زيادة مداخيل العاملين فيها وايجاد نظام لاستئجار الكوادر الطبية المؤهلة – الفردية – لمعالجة الحالات المرضية ذات الضرورة – بدلاً من معالجتها في المستشفيات الخاصة او في الخارج.
(ب) وعلى المدى المتوسط، لابتعاث أطباء وزارة الصحة للاختصاص ودورات التأهيل في التخصصات والمجالات المطلوبة.
(ج) وعلى المدى الأبعد، لابتعاث مئات الطلاب – خصوصاً من المحافظات – سنوياً، لدراسة الطب، بما في ذلك البحث في مجانية التعليم في الكليات الطبية الأردنية.
ونحن نقترح على نقابة الأطباء، الدعوة الى مؤتمر وطني للبحث في الأولويات والتوصل الى خطة وطنية في مجال ينبغي للأردن ان يظل متفوقاً فيه. وهو المجال الصحي والخدمات الطبية.