تقارير أردنية
شيحان
برر رئيس الوزراء، المهندس علي ابو الراغب، رفض الحكومة الاردنية لاستقبال موجة نزوح جديدة من الاراضي الفلسطينية الى الاردن، بالنظر الى اسباب ديمُغرافية واجتماعية وسياسية، لم يبينها، ولكنه ركز على المائي، فقال ان المياه المتوفرة في البلد لا تكاد تكفي الاردنيين. وقد اقتطفت وسائل الاعلام العربية هذه الموضوعة بالذات وابرزتها.
رفض استقبال النزوح الجماعي حق سيادي بسيط لاي دولة، ولا يحتاج الى مبررات، بل ان المبررات تضعف ذلك الحق، من حيث انها تربطه بشروط يؤدي تحقيقها الى عكس الموقف، فما الذي يمنع الولايات المتحدة الامريكية مثلا، من مناقشة تصريح ابو الراغب، كالتالي: سوف نعالج هذه الاسباب التي تحول دون استقبالكم النازحين الجدد. فقد نؤمن لكم مياها تركية باسعار الاستهلاك، وقد نجمع لكم مساعدات دولية لتحريك الاقتصاد وزيادة فرص العمل، فاذا توفرت المياه والاموال والمساكن، سوف تزول المشكلة السياسية من تلقاء نفسها.
ولا اعني ان واشنطن سوف تتقدم بهذا العرض، ولكنني اردت ان ابين منطق تصريح ابو الراغب وصولا الى استنتاجي الخاص، وهو ان الحكومة الاردنية تشعر بحرج شديد لـ«اضطرارها» رفض استقبال المزيد من النازحين، وكأن قدر الاردن وواجبه ان يستقبل موجات النزوح الفلسطيني، واحدة تلو الاخرى… فاذا تمنّع هذه المرة، فلا بد من مبررات مقنعة.
ومرة اخرى، سوف استنتج ان الحكومة الاردنية، تعرضت بهذا الصدد الى ضغوط متعددة، اضطرتها الى التراجع عن الاجراءات التي اعلنتها لتنظيم حركة انتقال مواطني الضفة الغربية وقطاع غزة الى الاردن، بحيث انها اصبحت في موقع دفاعي.
ويقول ابو الراغب ان المتخلفين عن العودة الى الاراضي الفلسطينية في الاشهر التسعة الماضية، هم بضعة الاف، فحركة النزوح بالتالي، هي في الحدود «الطبيعية» بل انه يفسر الزيادة الملحوظة الراهنة في حركة القدوم من الاراضي الفلسطينية، بدواعي موسم الصيف ولقاء الاقارب والتسجيل في الجامعات.
كل شيء طبيعي، اذن، ومع ذلك، فان الحكومة الاردنية تراقب الوضع عن كثب؛ وسوف تطبق تعليمات السفر والاقامة الخاصة بالاخوة الفلسطينيين من حملة البطاقات الخضراء، حسب تصريح وزير الاعلام، حالما تبدأ المدفعية الاسرائيلية بقصف الفلسطينيين بهدف طردهم من اراضيهم باتجاه الاردن، ويفهم من هذا ان القصف المدفعي الاسرائيلي الراهن للمدنيين الفلسطينيين لا يقصد منه تهجيرهم، كذلك نستطيع الاستنتاج بان الحكومة الاردنية، في حالة حدوث نزوح جماعي كثيف من الاراضي المحتلة، لن تلجأ الى اغلاق الجسور، بل الى تطبيق «التعليمات» المعلقة الان، علما بان هذا التطبيق سيكون بالتنسيق مع السلطة الوطنية الفلسطينية، وهو لا يشمل، بالطبع مواطني الضفة الغربية من اصحاب البطاقات الصفراء؛ فهؤلاء والحديث ما يزال لوزير الاعلام-مواطنون اردنيون، ويستطيعون بالتالي القدوم الى بلدهم، وقتما يشاؤون، طواعية او تحت نيران المدفعية الاسرائيلية.
كل شيء طبيعي، اذن، ومحسوب حسابه بدقة متناهية، وهذا ما يجعلنا نطمئن الى ان الاتجاه الى حدوث انقلاب ديمُوغرافي في الاردن، يطرح، عمليا، صيغة من صيغ الوطن البديل، ليس واردا، وليمت شارون بغيظه!
… فهل يتسع صدر الحكومة الاردنية لاستنتاجي الخاص-مرة اخرى-بانها تقف عاجزة امام النزوح التدريجي القائم، وانها ستقف عاجزة ايضا امام النزوح الجماعي المحتمل، وليس لذلك العجز من سبب سوى العجز السياسي الأصيل في قلب الحكومة الاردنية وتركيبتها، والذي ظهر، في الفترة الاخيرة، مرارا… بالتخاذل امام «حماس»، والسماح بعودة الناطق الاعلامي باسمها المهندس ابراهيم غوشة بواسطة حيلة رسمية، وبالتخاذل امام السلطة الفلسطينية، حين تلقت طلب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، بوقف تطبيق تعليمات السفر والاقامة الخاصة بمواطني السلطة الفلسطينية، حالما قدّم الوزير الفلسطيني جميل الطريفي ذلك الطلب الذي ربما كان مشفوعا برغبة امريكية او ربما كان خالصا لوجه العروبة؛ وهو ما يجعل الامر اشنع.
تصريحات رئيس الوزراء ووزير الاعلام بصدد المهاجرة الفلسطينية الى الاردن، غير مقنعة، وهي تذكرنا بقول ابي العلاء المعري:
هذا كلام له خبيء
معناه: ليس لنا عقول
فمن يصدق ان النازحين الجدد هم بضعة الاف فقط؟ ومن يصدق ان تعليمات الجسور صدرت بالاساس، ليتم تلقيها الى يوم الحاجة؟ ومن يصدق انها سوف تطبق لدى حدوث نزوح جماعي… بل وماذا ستفعل هذه التعليمات الخجولة والاعتيادية المخصصة لمعالجة النزوح المتدرج-من حيث انها تقيد ولا تمنع النزوح-ازاء تدفق غير اعتيادي كثيف للنازحين تحت قصف المدفعية؟! هل سيتقدم الفلسطيني المطرود تحت القصف المدفعي بطلب للنزوح… واثناء القصف ام بعده؟ وهل ستعتبر الحكومة الاردنية طلبه هذا مشروعا ام لا!
وبدلا من الاستمرار في مناقشة التصريحات الحكومية ربما كان الافضل ان نقدم سردا للاحداث، كما يلي:
1-ادى القمع الاسرائيلي الوحشي المتواصل لمواطني السلطة الفلسطينية، منذ تشرين الاول الماضي، بالاضافة الى حالة الحصار والانهيار الاقتصادي وتفاقم البطالة، وفقدان الامن الشخصي، وفي اجواء انهيار العملية السلمية برمتها، الى نشوء حالة نزوح تدريجي من مناطق السلطة الفلسطينية باتجاه الاردن، خصوصا وان تشابك المواطنة الاردنية-الفلسطينية، قانونيا وعائليا واقتصاديا، يشكل حاضنة ممتازة لاستقبال ذلك النزوح، الذي يشكل عملية اجتماعية-اقتصادية سياسية لا مجرد وضع طارئ.
2-في مواجهة هذه العملية، واخطارها على الاردن، اصدرت وزارة الداخلية، تعليمات اعتيادية بسيطة لتنظيم وضبط حركة المسافرين على الجسور، والحيلولة دون تحولها الى نزوح تدريجي كثيف.
3-تحت ضغوط فلسطينية رسمية وعلنية، وضغوط اخرى، داخلية اظهرتها مراكز قوى محلية وعبرت عنها بعض الكتابات الصحافية-وربما برعاية امريكية-تراجعت الحكومة الاردنية عن تطبيق تعليمات الجسور، خلال بضعة ايام من سريانها.
4-ولمداراة هذا التراجع، واخفاء ضعفها وعجزها السياسيين، لجأت الحكومة الاردنية الى الادعاء بانها لم تتراجع عن تطبيق تعليمات الجسور، وان هذه التعليمات قائمة بالرغم من انها لا تطبق، اذ هي صرحت، اصلا، لتطبيقها عند الضرورة.
5-ووصلت الحكومة الاردنية الى القول بان هذه «الضرورة» هي نشوء حالة نزوح امني كثيف، ومن الواضح ان التعليمات الصادرة والمعلقة لا تفي بالغرض في مواجهة هكذا حالة.
ان اضطراب الاداء السياسي والاعلامي للحكومة الاردنية في هذا المجال، وتضارب التصريحات بشأن المهاجرة الفلسطينية، خلال الاشهر الماضية، والاستعداد الرسمي للخضوع السريع للضغوط ومداراة هذا الخضوع بمبررات لا تصمد للنقد… ان كل ذلك يجعلنا في شك عميق ازاء القدرة الحكومية على مواجهة المشروع الشاروني الراهن.. ويجعلنا، للاسف، غير قادرين على اخذ التصريحات الحكومية على محمل الجد.0