حين أعلن المدعو براء يوسف البوشي، في إحدى قنوات تلفزيون أورينت، مسؤوليته عن اختطاف فريق فضائية ‘ الإخبارية السورية’، اكتشف الأمن السوري مخبأه في منطقة التل بريف دمشق، ودهمه. وفي الاشتباك، قُتل البوشي، وظهر أن المتحدث باسم ‘ لواء أنصار الإسلام’ هو نفسه ‘عمر حموي’، مراسل قناة ‘ الجزيرة’ القَطرية في ريف دمشق!تلقى البوشي أو الحموي، حسبما يقتضي الحال، تدريبه الإعلامي في مركز تدريب الصحافيين التابع للجزيرة في بيروت، وكذلك في مركز أريج للصحافة الاستقصائية في عمان، لكننا لا نعرف شيئا عن تدريباته الاستخبارية والقتالية. وربما يكون حصل على الأولى في الدوحة أو أنقرة ، بينما حصل على الثانية من خلال صلاته بالإخوان المسلمين السوريين.
هذه الفضيحة ـ التي كشف عنها موقع ‘سورية الحقيقة’ المعارض ـ ليست الأولى، ولكنها الموثقة بجثة صاحبها المقاتل والاستخباري والمراسل التلفزيوني والصحافي الاستقصائي معا. وهو ما يجعلنا نطرح على بساط البحث قضية الأدوار المركبة لمراسلي بعض الفضائيات وسواها من وسائل الإعلام التي تتبنى مواقف سياسية تدخلية، وتُخضع الإعلام للأجندات السرية العلنية.
الأدوار المركّبة المدعومة من جهات أمريكية وأوروبية وخليجية، نجدْها، أيضا، لدى صحافيين ـ في الصحافة الورقية في المواقع الإلكترونية ـ وكتّاب وباحثين وأعضاء مراكز دراسات ومنظمات مجتمع مدني ونشطاء ليبراليين الخ. وبينما نترك الجانب الجنائي من هذه القضية للجهات المختصة، فإن ما يعنينا، هنا، هو أننا نواجه عملية تصنيع للرأي العام من خلال شبكات إعلامية ـ بحثية ـ مدنية مموّلة ومدرّبة ومموّهة. والسبب في نجاح هذه الشبكة التي لعبت دورا بارزا في إفراغ الربيع العربي من مضمونه التقدمي، يعود إلى ثلاثة أسباب هي (1) الانفجار الإعلامي، (2) غياب المؤسسات الحزبية المؤدلجة والمنظمة والفاعلة. وهي التي كانت تضبط، سابقا، مرجعيات نشطائها، (3) ضعف الثقافة السياسية والفكر السياسي في الأوساط الجماهيرية التي تفضل استهلاك منتجات الإعلام على معاناة الوعي الثقافي.
ليست هذه دعوة للتشكيك بالفضاء السياسي كله، ولكنها دعوة للتفكير والتمييز على أساس معايير محددة؛ أولا، العمل السياسي الفردي أو من خلال خلايا ذات أسماء حركية الخ هو مجال خصب لتأثير الشبكة الموصوفة أعلاه. وقد لاحظت كيف أفرزت تلك الشبكة في الحراك الأردني، نشطاء سياسيين لبسوا ثوب الراديكالية فجأة، مع أن سيرهم الشخصية لا تسمح لهم بارتداء مثل هذا الثوب. وبالنسبة لي، فقد توصّلت إلى قناعة راسخة برفض العمل السياسي إلا من خلال أحزاب لها جذور وعقيدة وبرنامج معلن أو لجان ترتبط بالمكان أو بالعمل ـ النقابات ـ الخ ثانيا، الاستهلاك المستمر للمنتجات الإعلامية يعطّل العقل، في حين أن الكتاب والحوار الجدي والتأمل يُنضج المواقف السياسية. ثالثا، إن تسخيف المعايير الكبرى مثل الوطنية والعروبة ومركزية الصراع مع الإمبريالية والصهيونية والتقدم الاجتماعي والتحرر الوطني والمقاومة الخ واعتبارها ‘من مخلفات اللغة الخشبية ‘ لا يؤدي إلى حياد معياري، بل إلى سيادة معايير أخرى كالنجاح الفردي والانتهازية والبراجماتية وترجمتها في طلب نصرة الاستعمار لتحقيق ‘الديموقراطية’، واستخدامها لتحقيق سيطرة لون همجي من الاستبداد السياسي والفكري والثقافي.
العرب اليوم