آثار فضيحة عبّاس: الوطن البديل!

*
نفى وزير الخارجية الأردنية، ضمناً وباستحياء، أن تكون عمّان متورطة في تشجيع محمود عباس على فعلة سحب تقرير غولدستون. أراد الوزير التهرّب من المسؤولية عن الفضيحة، من دون أن يدين المتورطين فيها. وهو ما جعل تصريحاته باهتةً وكاريكاتورية، فكأنها توضيح لشأن إجرائي بيروقراطي، وليست إعلاناً لموقف سياسي.
من الناحية السياسية، لا تستطيع عمان الادعاء بأنها لم تشجّع عباس على فعلته الشنيعة، حتى لو لم تنسّق معه القيام بها. ذلك أنها تضع كل ثقلها وراءه: تحتضنه وتؤيده وتدعمه، وتعتبره شريكها الفلسطيني «الشرعي» و«الوحيد».
لأن قسماً كبيراً من مسؤولي السلطة الفلسطينية يحملون الجنسية الأردنية ويملكون قصوراً وعقارات واستثمارات في عمان، ولأن الأردن ممرّ إجباري للكثير من الصفقات والتهريبات إلخ، فإن «غض الطرف» والإفلات من طائلة القانون وتوفير الحماية للمهربين ومقاولي الجدار العازل والمتعاملين بصورة مشبوهة مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، كلها وسواها من الصنف نفسه، تمثّل العنوان الرئيسي للدعم الأردني لرجال رام الله. وبسبب ذلك، فإنّ السلطات الأردنية تعرف الكثير، وربّما تعرف أكثر من سواها عن ملفات فضائح الفتحاويين، وتمسك بمعظمها. وإلى ذلك، فإن المشتركات الثنائية في العديد من المجالات والتفاصيل، والتعاون الثنائي المستمر منذ 1994 بين عمان ورام الله، أوضحت للبيروقراطية الأردنية، الإدارية والفنية والأمنية، وبملموسات غير متاحة للآخرين، مدى انعدام الكفاءة الذي يميّز نظيرتها الفلسطينية.
وعلى الصعيد السياسي، ليس لدى عمان تيار في السلطة الفلسطينية التي تنوس بين تيارين متماهيين، هما التيار الإسرائيلي والتيار المصري. وليس لديها أدنى تفاؤل بتنازلات إسرائيلية تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة وقادرة على استيعاب مخرجات الحل النهائي لقضية الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، فإن السياسة الرسمية الأردنية المرعوبة من «الفراغ في المنطقة» واستحقاقاته، تقوم على أطروحات دعاوية ملحاحة لا علاقة لها بالواقع، ومضجرة. فكل ما تردده، بلا قناعة منها، يهدف إلى التغطية على ما تريده فعلاً. وهو في النهاية ملء الفراغ بمفاوضات مستمرة، تؤجّل يوماً بيوم لحظة الحقيقة القاسية. وما يوجع عمان الآن، أن حكومة نتنياهو ــــ ليبرمان ليست مستعدة للمشاركة في هذه اللعبة، وهي عازمة، من دون تلكؤ، على تحقيق إنجازات صهيونية حاسمة في تهويد القدس واستيطان الضفة الغربية، والاستيلاء الفعلي على معظم أراضيها ومواردها، مما يجعل الحياة اليومية ــــ بله الدولة! ــــ شأناً مستحيلاً، ويطرح على بساط الحراك السياسي الفعلي ذلك الحل الصهيوني القديم ــــ الجديد للقضية الفلسطينية المتمثل بالوطن الأردني البديل.
وعلى خلاف الطروحات والتصريحات الدعاوية، فإن عمان تنشئ البنية التحتية الداخلية ــــ السياسية والاقتصادية والعمرانية والاجتماعية والثقافية ــــ للوطن البديل، باعتباره الحل «الواقعي» الوحيد الممكن للمستقبل. وهي إذ تسعى إلى تنفيذ هذا الحل خطوة خطوة، وتأمل تحقيقه واقعياً بأكثر ما يمكن من المكاسب، وعلى مدى زمني كاف لتلافي صدام داخلي عنيف، فإن الاستعجال الصلف لإنجاز المهمة من جانب حكومة نتنياهو ــــ ليبرمان، مهما كان الثمن باهظاً على «الشركاء»، يدفع بالخيارات الرسمية الأردنية إلى الزاوية، ويشل فعلياً قدرة المملكة على التحرك الدبلوماسي أو تنظيم الحراك الداخلي. وتتحسس مكونات المجتمع الأردني واتجاهاته المختلفة، أزمة الدولة المشلولة، وتتفاعل معها بالنكوص إلى الحيّز الاجتماعي ــــ السياسي لما قبل الدولة، بالفوضى والعنف والانشقاقات على كل صعيد، بما في ذلك انشقاقات المجتمع والإدارة والنخبة والحركة الإسلامية والمعارضة العلمانية. على هذه الخلفية، يمكننا أن ندرك الأهمية الاستثنائية التي تفترضها عمان لبقاء «السلطة الفلسطينية»، رغم كل ملاحظاتها عليها، لاعباً سياسياً وحيداً في الشأن الفلسطيني. فـ«السلطة» تمثّل 1) درعاً أمنياً يقي الأردن من التورّط المباشر الباهظ الكلفة في الضفة الغربية، و2) واجهة سياسية للمفاوضات والتنازلات والتعايش المستمر مع الاحتلال والمشروع الصهيوني من دون الإضرار بعلاقات السلام الثنائية مع إسرائيل، التي تمثل الحجر الأساس للسياسات الرسمية الأردنية، و3) الحصول على المزيد من الوقت من أجل تنفيذ واقعي وآمن، وإجرائي لا سياسي، لحل الوطن البديل. وهو حل استسلمت عمان لحتميته، وتأمل فحسب إدارته وفق إيقاع داخلي بطيء لا خارجي متعجل، وبما يضمن تعظيم المكتسبات (المادية) وتصغير الخسائر (السياسية والأمنية).
هكذا، فإن فضيحة «تقرير غولدستون» التي زلزلت شرعيّة عباس وسلطته، فلسطينياً وعربياً ودولياً، ربما تكون قد نبّهت المسؤولين الأردنيين إلى ضرورة وجود حد أدنى من الصدقية في التعامل السياسي مع التحدّي الإسرائيلي، للحفاظ على بنى وسياسات ما يُسمّى بالعملية السلمية. وقد تلمّس المراقبون ذلك من خلال ظهور لهجة أردنية جديدة، هنا وهناك، في السجال مع إسرائيل. لكن لهذا السجال حدّاً أعلى لا يتجاوز الضغط على حكومة نتنياهو ــــ ليبرمان، لعدم عرقلة ملء الفراغ وتهدئة الاندفاع نحو تحقيق إنجازات عاجلة على حساب الشركاء، مما قد يؤدي إلى القضاء عليهم.
ولا نعرف، بالضبط، حجم التدخل الأردني، مع يقيننا بحصوله، في دفع السلطة الفلسطينية إلى المبادرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من صدقيتها عبر الاعتراف بـ«خطأ» سحب تقرير غولدستون، وإطلاق مساع جديدة لتبنيه. ولكن من المعروف أن المملكة تدخلت بكل ما لديها من إرادة لتلافي وقوع صدام دموي في المسجد الأقصى بين الجماعات الصهيونية المتطرفة والمعتصمين من الفلسطينيين داخله خلال عيد العرش اليهودي. وقد نجحت الجهود الأردنية في تسكين الموقف، ما يعدّ إنجازاً جنّب المملكة أزمة مواجهة استحقاق الخرق الإسرائيلي الفاضح لمعاهدة وادي عربة التي تمنح الأردن حق الإشراف على المقدسات المقدسية. وبذلك جرى، مؤقتاً، تلافي «غولدستون» أخرى.
لكن عقابيل خيانة عباس الصريحة حتى لحقوق شعبه الإنسانية، هي من الثقل بحيث لا يمكن القفز فوقها. فبعد «غولدستون»، ظهرت السلطة كحكومة عميلة للاحتلال، أو فاسدة بحيث تبيع حقوق شعبها مقابل مصالح خاصة، أو عديمة الكفاءة بحيث لا يمكن الوثوق بقدرتها على تمثيل الفلسطينيين في المفاوضات (كما لاحظ سري مقدسي في مقالته في «الأخبار»). ولن تفيد المساعي الاستدراكية الفلسطينية والأردنية، والمساعي المصرية للمصالحة بين فتح وحماس، في تبديد هذه الصورة.
لقد سقطت شرعية السلطة ــــ فتح نهائياً، وبسقوطها سقطت شرعية مفاوضات لم يعد ضرورياً تحليلها أو نقدها، بل مجرد السخرية منها فحسب. ومن المؤسف أن قوى، مثل الشعبية والديموقراطية، لا تدرك ذلك، بينما يلاحظ المراقب ما يشبه التباين، حتى لا نقول الانشقاق، في لهجة حماس التي تستطيع اليوم قيادة هجوم سحب الاعتراف من فتح والسلطة وتجريمهما بالعمالة، وإعادة توحيد السياسة الفلسطينية على أسس جديدة كفاحية ترفض العملية التفاوضية من حيث المبدأ، وتطالب بالمقابل بتنفيذ القرارات الدولية بشأن القضية الفلسطينية من دون شروط.
لا يبدو أن حماس قادرة على القيام بهذه المهمة. ولعل نقطة ضعفها الأساسية هنا تكمن في حرصها على الاحتفاظ بالسلطة في غزة، ما يجعل مناداتها بإسقاط أوسلو وحل سلطة الحكم الذاتي المحدود والعودة إلى شرعية المقاومة، مستبعداً، رغم أن هذا الموقف، في رأينا، ليس فقط الموقف الوحيد الذي يطلق عملية توحيد وطني حقيقية في فلسطين، ويخرج القضية الفلسطينية من أزمتها الراهنة المستفحلة، ولكنه أيضاً الموقف الوحيد القادر على إخراج حماس من أزمتها التي تتفاقم في مستنقع إمارة طالبانية رديئة، يمكن التخلي عنها لمصلحة إدارة مدنية منتخبة في القطاع، وإعادة المقاومين إلى الخنادق.
لولا عجز حماس السياسي عن القيام بذلك الهجوم الضروري ضد «العملية السلمية» برمتها، لكان ثلاثي رام الله ــــ عمان ــــ القاهرة قد دخل فوراً الطور الأخير من مأزق بلا حل. غير أن مأزق هذا الثلاثي، وخصوصاً في ضلعيه الفلسطيني والأردني، يظل قائماً. فلم تعد المشكلة الآن في العقبة الإسرائيلية فقط، بل هي أكبر لدى الجانب السلطوي الفلسطيني الذي لم يعد يتمتع بصدقية تسمح بالنظر إلى المفاوضات بجدية. المفاوضات الآن لم تعد تملأ «الفراغ في المنطقة»، وصار لا بد من مواجهة الفراغ في الداخل.
ترتبط القضية الفلسطينية بالقضية الأردنية ارتباطاً عضوياً. فالتقهقر السياسي الحاصل في فلسطين يُترجم في الأردن، بتصاعد نزعات التوطين السياسي لدى لاجئين يمثّلون نصف السكان، وكل مستوطن إسرائيلي جديد في الضفة الغربية يعني، حرفياً، لاجئاً جديداً في الأردن الذي يجد نفسه خاسراً في هذه العملية من شبكة الأواني المستطرقة في كل الأحوال. ففي حالة الصعود والانتفاضة، يلجأ إلى الأردن المزيد من أبناء الفئات الوسطى الهاربين من العنف والباحثين عن عيش هادئ يسمح لهم بمزاولة أعمالهم، وفي حالة الهبوط والتفسخ يدفع اليأس النخب اللاجئة إلى ممارسة ضغوط التوطين النهائي. إن العلاقات الإدارية والسكانية والاجتماعية والاقتصادية والجيوبولوتيكية بين الضفة والأردن، هي من التشعب والتغلغل والانتشار، بحيث لا يمكن تجاوز تأثيراتها السلبية على مستقبل البلد، إلا باعتماد سياسات مواجهة حازمة مع إسرائيل، تجعل السلام الثنائي، في الحد الأدنى، مرتبطاً بإنهاء الاحتلال وتنفيذ حق العودة كمنطلَقين لسياسة وطنية، وليس كهدفين يُتفاوَض عليهما بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ليست للأردن أية مصلحة في «دعم» عملية تفاوضية بين يمين صهيوني متطرف ومؤسسة فساد فلسطينية. وبدلاً من استمرار التورّط في المستنقع الفتحاوي ــــ الإسرائيلي، ينبغي للأردن أن يتبنى مقاربة مستقلة تقوم على التنفيذ الكامل غير المشروط للقرار الدولي 242، بما في ذلك عودة النازحين من الضفة الغربية إلى ديارهم حالاً.
وبدلاً من تقديم التسهيلات لمسؤولي «السلطة» الفاسدين، يتوجب على الأردن وضع هؤلاء أمام مسؤولياتهم في ترتيب عودة حوالى مليون من مواطني «السلطة» الذين يملكون تصاريح احتلالية تمكنهم من العودة الفورية للضفة، ولكنهم يؤثرون الإقامة في الأردن والتمتع بالجنسية الأردنية. وهذا المليون من مواطني «السلطة» الهاربين منها، هم فضيحتها الكبرى المغيّبة. فأولى مسؤولياتها

لولا عجز حماس السياسي لكان ثلاثي رام الله ــ عمّان ــ القاهرة قد دخل فوراً الطور الأخير من مأزق بلا حل

الإدارية بل الوطنية، تقتضي منها العمل على إعادة هؤلاء إلى الأراضي الفلسطينية. وهو ما يستلزم جهوداً ذاتية (إدارة كفوءة وتوزيعاً عادلاً للدخل الوطني وخفض مستوى الفساد ووقف البلطجة إلخ) لا تقع، مطلقاً، في خانة المفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية، ولا تتطلب موافقتها. وينطبق ذلك على ربع مليون غزّي في الأردن لم تعمل حماس على منحهم الجنسية الفلسطينية ولا مطالبة الأردن ومصر بتسهيل عودتهم إلى القطاع.
لا تحفل عمان ولا رام الله ولا غزة بعملية عودة مواطني السلطة ــــ أعني القادرين وفق إجراءات الاحتلال وتعليماتهم ــــ إلى ديارهم. وهو ما يجعل من الكلام الرسمي الأردني ــــ الفلسطيني عن حق العودة مجرد أكذوبة. وهي أكذوبة أصبح فضحها الآن، وفضح سواها من الأكاذيب، ضرورة لإحياء الحركة الوطنية الفلسطينية.
إذا لم تجر تفاعلات وتغييرات جذرية لما بعد فضيحة سحب تقرير غولدستون، وخصوصاً في الحيّزين الأردني والفلسطيني، فنحن نتجه فعلياً إلى تكريس الآتي: سلطة عميلة في رام الله، بلا مشروع سياسي، مهمتها الوحيدة قمع المقاومة، وإمارة طالبانية تهتم بفرض النقاب ومنع الخمور في غزة، ووطن بديل في الأردن بالتفاهم مع إسرائيل وتحت سيادتها.
لقد انتهت «السلطة»، مثلما لاحظنا، إلى مأزق يهدد مستقبلها السياسي، لكن حماس في مأزق مماثل ما دامت عاجزة عن تصوّر وضع تقلب فيه الطاولة على أوسلو وهيئاته وانتخاباته وتبعاته. وإذا كان مأزق «السلطة» يكشف مأزق عمان حتى منتهاه، فإن مأزق الانشقاق الأردني ــــ الفلسطيني يعادله. وبينما لا تبدو هناك إشارات إلى استعداد الأردنيين والفلسطينيين لدفع إتاوة التاريخ لرد كيد المشروع الصهيوني إلى نحره، فإننا نخشى من ترسيخ الخريطة السياسية الإسرائيلية للبلدين الشقيقين.
«دع القضية والحل جانباً، ودعنا نرتب الأمور الواقعية»، هذا ما يقوله «القبضاي» الصهيوني ليبرمان، ويصوغه رئيس وزراء السلطة الفلسطينية في برنامج واقعي لبناء مؤسسات «الدولة»، أي لإدارة قمعية في 40 بالمئة من الضفة تحت الاحتلال. وفي عمان، قد تكون الاستجابة لواقعية ليبرمان الفظة، الشروع بتغييرات سياسية قريباً تمهد للوطن البديل.
* كاتب أردني

Posted in Uncategorized.